في تصعيد جديد، أعلنت القوات المسلحة اليمنية، عن تنفيذ عملية جوية نوعية ضد خمسة أهداف "عسكرية وحيوية" في الداخل الإسرائيلي، باستخدام طائرات مسيرة. وقال المتحدث الرسمي العميد يحيى سريع، إن العملية استهدفت مطار اللد، هدفاً عسكرياً في يافا، ميناء أم الرشراش، مطار رامون، ومنشأة في منطقة أسدود، مؤكداً أنها "حققت أهدافها بنجاح".
العملية التي تأتي في سياق مزدوج: الرد على الغارات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت في ميناء الحديدة غربي اليمن، ورداً على"جريمة الإبادة الجماعية" المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ليست الأولى من نوعها لكنها تحمل دلالاتها أيضاً. اللافت هذه المرة أن الهجوم نُفّذ بعد ساعات فقط من قصف إسرائيلي طال البنية التحتية الملاحية في الحديدة، ما يشير إلى تحوّل في زمن الاستجابة لدى صنعاء، وهو ما يُعد تطوراً ملموساً ومتزايداً في المرونة الميدانية، وهو مسار تتبعه صنعاء منذ بدء الحرب، وتستمر به بطريقة مدروسة.
ورغم أن كيان الاحتلال لم يصدر، حتى لحظة كتابة هذا التقرير، بياناً مفصلاً يوضح نتائج الهجوم، فإن وسائل اعلامية عبرية اكتفت بالإشارة إلى رصد "أجسام معادية" في المجال الجوي الجنوبي دون تأكيد رسمي لحجم الأضرار. هذا الصمت النسبي بات تقليداً في تعامل تل أبيب مع الهجمات القادمة من اليمن، في محاولة لعدم تضخيم أثرها أو الاعتراف بنجاحها، لكن وتيرة التكرار والاتساع الجغرافي للأهداف تشير إلى أن اليمن بات رقماً صعباً في المعادلة.
يبقى السؤال المطروح: لماذا تعاود إسرائيل قصف ميناء الحديدة رغم أنها استهدفته مراراً خلال الأشهر الماضية؟ الجواب لا يبدو عسكرياً بحتاً. فمن الناحية العملياتية، لم تنجح تلك الضربات في تعطيل قدرات صنعاء الجوية أو في تحجيم نطاق عملياتها ضد كيان الاحتلال. ويدرك صناع القرار في تل أبيب أن بنك الأهداف المتوفر لديهم في اليمن محدود نسبياً، وأنه لا يشبه في كثافته أو فعاليته ما هو متاح في غزة أو سوريا. من هنا، فإن تكرار قصف الحديدة تحديداً، يحمل أبعاداً سياسية ونفسية أكثر منها عسكرية، تهدف إلى إظهار نوع من الرد، دون الانجرار إلى مواجهة مفتوحة أو تكبد كلفة استراتيجية باهظة في ساحة معقدة وغير مألوفة.
هذا الواقع يكشف أحد أوجه الخلل في استراتيجية الردع الإسرائيلية شرق البحر الأحمر. فبينما يُفترض أن تكون الحديدة هدفاً سهلاً ومكشوفاً بحكم موقعه، إلا أن الضربات التي طالت الميناء منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وحتى اليوم، لم تؤد إلى شلّ القدرات العسكرية لصنعاء أو منعها من توجيه هجمات دقيقة على مطارات وموانئ داخل فلسطين المحتلة. بل على العكس، بات واضحاً أن القوات اليمنية نجحت في ترسيخ معادلة قائمة على الرد الجوي المباشر، وإن بشكل غير متزامن زمنياً.
التحول الأهم يتمثل في اتساع نطاق بنك الأهداف اليمني. فالضربات الأخيرة لم تُوجّه فقط إلى مناطق حدودية أو منشآت بحرية، بل إلى مطارات دولية (كاللد ورامون)، ومرافئ استراتيجية كأم الرشراش وأسدود، ما يدل على أن صنعاء لم تعد تعتمد على الرسائل الرمزية، بل تسعى لتكريس كلفة مباشرة على كيان الاحتلال في الداخل، وليس فقط في محيطه البحري.
في هذا السياق، لا يمكن فصل هذه العملية عن البيئة السياسية الإقليمية الأشمل، حيث باتت اليمن، رغم ظروفها الداخلية الصعبة، لاعباً فاعلاً في معادلة الردع المرتبطة بالقضية الفلسطينية. وإن لم تكن هذه العمليات قادرة على تغيير موازين القوى العسكرية بصورة حاسمة، فإنها تسهم في تقويض رواية التفوق الإسرائيلي، وتؤسس لنمط من الرد الإقليمي المتعدد الجبهات، الذي يصعب على كيان الاحتلال احتواؤه دون أثمان باهظة.
في المحصلة، فإن العملية تمثل استمرارية في نهج الرد الاستراتيجي لصنعاء، لكنها أيضاً تكشف عن محدودية القدرة الإسرائيلية على فرض معادلة ردع فعالة في الجبهة اليمنية. وما لم تحدث تغييرات جوهرية في موازين القوى أو في المسارات السياسية الإقليمية، فمن المرجح أن تستمر هذه المعادلة كجزء من المشهد الحالي المستجد في المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير