هناك من ولد وفي فمه ملعقة من ذهب الرفاهية وبحبوحة الثراء الأسرية لأولاد الذوات.. مسئولين ورؤساء.. مشائخ ووزراء.. سفراء وساسة وبزنسمان.. ظروف نشأتهم وتربيتهم أفرزت لديهم طريقة تفكير مخملية حتى مع وصولهم لمراكز قيادية في سلك الوظيفة الحكومية أو في إطار العمل السياسي.. مما أدى لبقاء الهوة والشرخ متسعا بينهم وبين الناس المعدمين.. إذ لا يحس هؤلاء بمعاناة المواطن العادي ولا يكترثون بآلام وهموم وقضايا الشعب واحتياجات المجتمع مهما حاولوا تقمص الأدوار بالخداع والتمثيل وحملات التلميع التسويقية.. فنشوة سعادة عيال الهاي هاي تختلف عن وجع طبقة المحرومين.
في المقابل وعلى النقيض تماما من أولاد الملاعق الذهبية.. هناك من ولدوا وفي أفواههم ملعقة من تعب وحب ولهب.. خلقوا ليكونوا قادة أمة ومشاريع خلاص.. يحملون رسالات العظماء.. نبل الفرسان.. أخلاق ومبادئ وقيم الكبار والملهمين الذين اختارهم الأقدار لتغيير التاريخ وصناعة الأدوار والتضحيات التي يقدمونها للإنسانية.. تحت راية النضال والحق والعدل والحرية.
عبدالملك الحوثي.. أحد هؤلاء الاستثنائيين.. واحد من أبناء الأسر اليمنية العادية والبسيطة .. تربى وترعرع في ظروف صحية من الجوانب الأخلاقية كابن عائلة ريفية تعيش حياتها مع الطبقات المسحوقة.. تشاركهم ذات المعاناة والألم والظلم.. وتتقاسم معهم الأمل والحلم والتفاؤل والطموح.. إذ كان والده الراحل بدر الدين الحوثي رجل علم وهب نفسه لتعليم الدين كمرجعية وعالم جليل ذاع صيته في الآفاق وشهرة وسمعة ومكانة.. لكنه بقي ذلك الزاهد العفيف الناصع النزاهة والفاضل سيرة عطرة ورصيد وافر في خدمة المجتمع والتضحية من أجل الآخرين وهو الذي كان سهلا عليه العيش في بحبوحة وترف غير أنه كبح جماح ذاته أمام إغراءات ومطامع الدنيا.. لكأنما عزاؤه في القناعة والزهد حسن تربيته المتفردة لأولاده الذين يتوسطهم عبدالملك وفق منهجية إسلامية قائمة على العلم والصدق والشجاعة والإيثار.. فجاء مولود 1399هجرية ليصبح منذ سنواته الأولى الأحب إلى قلب أبيه.. إذ بدت عليه منذ وقت مبكر علامات التفرد والنبوغ وهو يتنقل مع أهله للإقامة من قرية جمعة بن فاضل بخولان بن عامر إلى عزلة مران بمديرية حيدان وآل الصيفي بمديرية سحار صعدة القريبة من مدينة ضحيان.. كان والده العلامة بدر الدين لا يتوقف عن تدريس العلوم الفقهية في الأرياف والقرى القبلية البعيدة.. مسخرا حياته وجهده ووقته لنشر تعاليم الدين الحنيف وفي ذات الوقت يواصل التعلم والبحث عن المعرفة والتأليف والسعي لحل قضايا ومشاكل المتخاصمين.. وللواحد أن يتخيل السيد عبدالملك بهيبته ومكانته وشهرته الآن بأيام زمان.. تخيلوه وهو يمسك بالطرف الأسفل من ثوب والده ويخطو معه متدحرجا بين طرقات القرى الجبلية.. تخيلوه يقفز كبقية الأطفال من صخرة إلى فوق أخرى و والده يصيح عليه ويبهرر خوفا من جرح قد يصيبه لو سقط.. تخيلوه يسبق والده إلى الجامع ويقف إلى جواره لأداء الصلاة وهو لا يتلفت ويتحرك كما يفعل الصغار في سنواتهم الأولى حينما يقلدون الكبار في الركوع والسجود.. تخيلوه مثلا يتعنقل فوق صدام سيارة شاص.. وهو يصرخ لعدم اصطحاب أخوته الكبار له معهم إلى سوق الخميس.. تخيلوه يرعى الأغنام رفقة والدته.. وهو يبكي أمامها طالبا قطعة حلوى وحق الجعالة.. تخيلوه وهو ينطق كلمات صعبة ويثير ضحكة أفراد الأسرة.. تخيلوه وهو يصنع لعبته بيده على شكل سيارة مصنوعة من دبات الزيت البلاستيكية وعجلاتها علب معدنية.. تخيلوه يطارد العصافير بمقلاعه ويتعارك مع أقرانه ويخشى العودة للبيت وقد تعفرت ملابسه وجسمه بالتراب.. تخيلوه وقارنوا.
حدس الأب والابن الخارق
هل كان عبدالملك الحوثي يعرف أنه سيصبح ذا شأن عظيم على هذا النحو من المكانة والقوة والجماهيرية.. إحساس وفراسة والده –ربما- تنبهت لمستقبل الرجل.. فمنذ كان طفلا صغيرا والأب يشيد به ويثني عليه.. قلب الأب توسم في فلذة كبده التفرد.. كيف لا والأمر متعلق بحدس عالم رباني جليل.. ظل حبه لنجله عبدالملك ينبض حتى آخر ساعة من حياته.. فقد كان العلامة بدر الدين يمتدح شجاعة عبدالملك ويسره انجذابه للتحصيل العلمي بنهم جم ما جعله يلقنه العلوم والمعارف من سنواته الأولى.. مبتدأ بتحفيظه القرآن وأبجديات القراءة والكتابة عبر دروس يومية داخل البيت الصغير المتواضع وما إن اجتاز عبدالملك المراحل الأولى من التعلم حتى انخرط في حلقات التدريس التي يضطلع بها أبيه في جامع القرية.. آنذاك كان عبدالملك ما بين السادسة والسابعة من العمر.. لكنه انضم إلى حلقة الشباب والكبار الذين يدرسهم والده.. فحفظ الأحاديث النبوية ومتن الأجرومية والشعر والتفسير وعلم الكلام والفقه والمواريث وغيرها من الفروض العلمية وفق المذهب الزيدي.. لدرجة أصبح معها متقدما على الآخرين ممن يكبرونه سنا.. مما جعل والده يخصص له منهجا دراسيا خاصا به وهو ما زال فتى صغيرا يناهز الثلاثة عشر ويدرس كتبا يفترض أنها خاصة لمن بلغوا الأربعين سنة.. كان الطلاب يستغربون من رؤية عبدالملك منزويا وحده يقرأ مجلدات كبيرة وهم يدرسون كتيبات صغيرة.. ولا يجد والده الفخور به غير إخفاء مشاعر الغبطة والزهو بطفله النجيب إلا الإجابة عليهم والابتسامة تعلو محياه بما معناه أن عبدالملك “طارقة” أي “علامة” قطع شوطا متقدما في التحصيل الدراسي يوازي عمره ثلاث مرات.. ليضيف بذلك شهادة أخرى لابنه إلى جانب شهادته بإقدامه وفروسيته كفارس شجاع.. بيد أن أحدا من أصدقاء طفولة عبدالملك لم يذكروا ما يدل على أنه كان مشاغبا أو محبا للمشاكسة كبقية الأطفال .. يتذكرون عنه الخجل والأدب والهدوء والمرح.. لذا فالشجاعة التي استشفها والده لم تظهر بجلاء إلا في شبابه مطلع العشرينات.. حين كان في حرب صعدة الأولى 2004م واحدا ممن سطروا ملاحم الصمود الأسطوري في جبال وقرى “مران” مقاتلا شرسا من أول رصاصة إلى آخر قطرة دم وصرخة الله أكبر.
علاقة روحانية وجاذبية ملهمة
كلاهما ارتبط روحيا ونفسيا بالآخر.. عبدالملك وبدر الدين.. وجاء الشقيق الأكبر “حسين” ليصقل هذا الارتباط الوجداني الحميم بأسلوب مختلف أضاف لوعي عبدالملك ما ساعده على تشكيل مداركه وتعزيز وشائج الانتماء للهوية.. علميا واجتماعيا وسياسة.. فقد انتقل الطفل الذكي من أحضان والده إلى بين يدي أخيه الذي صار فيما بعد بمثابة الأب الروحي له والقدوة التي تعلق بها حد التماهي.. فرافقه وهو عضو مجلس نواب في صنعاء واقترب منه كثيرا طيلة سنوات إقامته في العاصمة.. العالم الجديد الذي عرفه عبدالملك بعد عقد ونصف من ملازمة الريف متنقلا بين شواهق قمم حيدان ومزارع آل الصيفي وضحيان.. وفي صنعاء تفتحت مدارك عبدالملك على جوانب فكرية متنوعة أكثر ما شده فيها هو الجانب السياسي.. إذ بدأ يقرأ الصحف ويتابع الأخبار ويناقش تطورات ومستجدات الأوضاع بحكم أحداث تلك الفترة منتصف التسعينات ومدى اهتمام شقيقه حسين بتفاصيلها.. عوضا عن تعلمه أشياء أخرى من ثقافة المدينة المتطورة في شتى نواحي الحياة واكتساب علاقات وصداقات مع أناس وشخصيات من اتجاهات وانتماءات حزبية وجغرافية وايديولوجية متنوعة.. ليجد ذاته فجأة على موعد طارئ لمغادرة الوطن.. في أقرب رحلة إلى إيران.. حدث ذلك عندما أصبح والده الراحل بدر الدين الحوثي غير مرغوب فيه لدى السلطات اليمنية وهو المواطن اليمني المكفول له كامل حقوق المواطنة دستوريا.. لكن النظام قرر نفيه خارج البلاد لأسباب ذات أبعاد سياسية ومذهبية.. فيحزم حقائبه على استعجال ويرحل مرافقا لأبيه المتقدم في العمر الذي اختار عبدالملك ليصاحبه في السفر ورحلة الهجرة القسرية.. لتحط به الرحال بمدينة طهران.. هناك في بلاد غريبة على الابن والأب تدور الأيام وتمضي الشهور حافلة بالشجون والقصص والتحديات.. من صدمة المفاجأة الأولى وكدر البعد عن بيئة صعدة وأهلها وناسها إلى ما لم يكن في الحسبان.. عندما داهمت الشرطة الإيرانية مسكنهم ذات ليلة صاخبة بالتأكيد كانت بالغة القسوة وعسيرة الامتحان.
المداهمة والصدمة المدوية
القادمون من أقصى شمال اليمن إلى شرق الأرض.. كانوا أناس أبرياء على الفطرة وسجية المواطن اليمني البسيط.. أنقياء كأي إنسان عادي.. كل ما يملكونه هو طيبتهم الزائدة عن اللزوم وعلمهم الفائض جدا والمحروس بحرص رجال الدين الصادقين على عروتهم الوثقى بالله.. غير أن القصة هذه المرة أكبر بكثير مما يتصورون.. أفراد الشرطة الإيرانية يملأون البيت وخارجه سيارتهم المتوثبة لأي إشارة.. والحاج بدر الدين وابنه عبدالملك في حيرة مما يجري.. لا يفهمون لغة المداهمين الفارسية ولا يدرون سببا عن اقتحام سكنهم الذي يتعرض للتفتيش الدقيق.. مر الوقت كأنه دهر.. لقد كان الموضوع خطيرا للغاية.. المخابرات الإيرانية رصدت مكالمات هاتفية من خط تلفون منزل بدر الدين في طهران إلى أمريكا وأمريكا في بلاد الخميني شيطان أحمر ومن ذا الذي يجرؤ على التواصل مع الشيطان الأكبر.. يا للورطة القاصمة للظهر.. بدر الدين وابنه لا يكادان يصدقان ما يحصل لثقتهما بعدم إجراء أي مكالمة إلى أمريكا.. هل كان في الأمر وقيعة؟ بل أكثر من ذلك.. قامت أجهزة المخابرات بالتحقيقات ليكتشفوا أن الضيف هو من أجرى الاتصالات.
من هو هذا الضيف المتورط في المشكلة؟!
إنه صديق للأسرة.. شخصية محترمة وصاحب مكانة وحضور وتقدير بين الناس.. كان قد اتصل من العراق بالبدر وابنه إلى بيتهم في إيران.. يسأل عنهم ويخبرهم بأنه قادم إليهم متخذا من قصة إشكاليات تجارية يتعرض لها مبررا للتغطية على مهمته التي لم يكن عبدالملك وأباه يتوقعون ولو قليلا أنها مرتبطة بالمخابرات الأمريكية التي كانت ترصد أنشطتهم وتحركاتهم بدقة لدرجة تعقبهم والتجسس عليهم هناك في إيران.. وبالطبع لم يكونا يعرفان أنهما بهذا القدر من الخطورة والأهمية.. إذ أن عفوية وتلقائية الأعمال التي يقومون بها دعويا وسياسيا في اليمن لم تكن ذات طابع يجعلهما يستشعران الخطورة كما أن حركة أنصار الله حينها لم تكن قد وجدت ولا ظهرت بعد منهجيتها الثقافية المناهضة لأمريكا وإسرائيل.. ما يدل على استشعار الأمريكان لخطورة مشروع آل بدر الدين الحوثي ضدها ربما قبل أن يشعروا هم بعظمة الأمر.. ما جعلهم مصدومين لأبعد حد حين أطلعتهم المخابرات الإيرانية على الحقائق التي تأكدت لهم بعد نحو عشرين سنة حينما برز ذلك الضيف في صف قوات الجيش التي أشعلت الحرب ضدهم في صعدة بسبب رفعهم شعار الموت لأمريكا.. عندها استعاد عبدالملك شريط الذاكرة عن ذلك الصديق الضيف وصار يحكي قصته معهم للدوائر المقربة منه في الوقت الذي أصبح فيه يفهم جيدا أنه عدو للأمريكان ولم يعد يهمه تجسسها عليه بعدما تجاوز المرحلة وقطع شوطا مكللا بالنجاح في تحصين المجتمع اليمني من أخطار العدو الأمريكي وفقا لنهج المسيرة القرآنية التي أسسها السيد حسين بدر الدين وكان عبدالملك فردا من السباقين الأوائل للالتحاق بها كطالب علم في مدرسة أخيه وناشط متحمس في منتديات الشباب المؤمن.. قبل أن تختاره الأقدار ليكون القائد لحركة أنصار الله منذ 2006 حتى اليوم.. حاملا الراية مواصلا درب القائد المؤسس الشهيد حسين بدر الدين الحوثي الذي قتل أثناء الحرب في سبتمبر 2004 وهو يواجه المدافع والدبابات والطائرات مع مجموعة صغيرة من أنصاره كانوا قد تحصنوا في جرف سلمان كآخر معقل احتموا به مع شدة القصف واستعار الحرب.. في حين كان عبدالملك الحوثي يقود مجموعة مقاتلين بقرية تسمى “الجمعة” كانت آخر محاولة لهم هي فك الحصار عن جرف سلمان..
وصية الايام الاخيرة
قبل أيام قليلة من استشهاد حسين كان قد تلقى منه رسالة مكتوبة تحتوي على توجيهات الخطة العسكرية للمواجهة وما يشبه الوصية بتحمل المسئولية والاستعداد لحمل الراية من بعده.. لكأن شقيقه حسين لمس فيه هو مواصفات وصفات القيادة فكان موفقا في الاختيار.. قياسا بما حققه عبدالملك في السنوات الأخيرة من نجاحات فاقت الخيال.. لتبقى تفاصيل رحلته الشاقة من مران الى المجهول يعجز الوصف عن تصوير مرارتها وأحداثها وسط المخاطر وحقول النار والألغام المحيطة به من كل جانب وهو يشق طريقه تحت جنح الليل نحو الله ولا غير الله في تلك اللحظات الصعبة قصد أحدا.. لا يدري إلى أين يذهب وإلى أي اتجاه يحث السير.. منحدرا مع رفاقه الثلاثة من أعالي قمم جبال مران الضاجة بانفجارات الحرب.. متسللا بين قراها المدمرة.. يتنقل بين الشعاب والوديان وروائح جثث القتلى المتناثرة حول الصخور والأحجار تختلط برائحة بارود القذائف والصواريخ.. لا يدري أين أهله وأسرته ولا بقية الرفاق والأصحاب.. الجوع والعطش والخوف والجروح والتعب يضاعف مأساته.. يمشي راجلا بلا سيارة ولا معين ويعلم أن العيون تتربص به ويخشى الكشف عمن يكون لو صادف أحدا أو طلب المساعدة.. ومن يعرف حجم المشقة وبعد المسافة ووحشة التضاريس وقسوة الطبيعة الممتدة من مران إلى ضحيان لن يصدق أبدا أن عبدالملك قطعها ونجا حتى وصل إلى نشور القريبة من مدينة صعدة ومنها إلى منطقة نقعة ومطرة ذات الأودية والجبال والخالية من السكان على الحدود السعودية.. لقد لعبت الألطاف الإلهية دورا رئيسيا في بقاء عبدالملك على قيد الحياة.. إذ كان موته محققا من وعثاء السفر هذا إن نجا من القتل في المعركة.. بيد أنه التزم بتوصية أخيه حسين بإخفاء نفسه وعدم الكشف عن هويته مطلقا في تلك الأيام التي بالتأكيد كانت في الصعوبة والمعاناة على نحو مضاعف مما واجهه عبدالملك قبلها بعشر سنوات.. حينما تعرض والده المريض والكبير في السن للاستهداف في 93/94 من سلطات الدولة وأطراف أخرى بنفس الاتهامات السياسية والمذهبية الحالية.. الإمامة والاثني عشرية وإيران.. تعرض العلامة الراحل بدر الدين الحوثي لعدوان غاشم آنذاك.. هاجموا منزله في مران بالقذائف وطاله الخراب والنهب.. كان حسين عضوا في مجلس النواب وأبو جبريل في الرابعة عشر.. انتقلت الأسرة من مران للإقامة في عزلة جمعة بن فاضل حيث يحظى السيد بدر الدين الاحترام والإجلال لدى أهلها.. لكن عشرات الأطقم الأمنية لاحقته إلى مكانه الجديد بهدف اعتقاله إلا أن أبناء العزلة ووجهائها تدخلوا للحيلولة دون ذلك لينتهي الأمر بالاتفاق على خروجه من اليمن وليس مغادرة المنطقة تلك فقط. ومن هذه النقطة تغيرت طريقة تفكير عبدالملك وتعمقت نظرته ورؤيته للحياة بشكل سنتناوله بالتفاصيل فيما بعد.
شخصية فذة عابرة للخيال
سأكتفي في هذه الحلقة بوقوف شعر رؤوسكم وأنتم تقرأون للمرة الأولى قصة حياة “أبو جبريل” الشاب اليمني الخارق للعادة.. اختار لنفسه هذه الكنية كاسم حركي داخل صفوف جماعته.. إنه السيد الثلاثيني عبدالملك الحوثي.. قائد المسيرة القرآنية.. زعيم حركة أنصار الله.. الصعدي القادم من خلف الأقدار ليقلب طاولة التاريخ اليمني رأسا على عقب.. المواطن المنتمي لأرض وتراب وطنه.. الاسم والشخصية العابرة للحدود.. الأشهر حاليا في المنطقة الإقليمية والأقوى حضورا وتأثيرا على الساحة المحلية.. الرقم الصعب في معادلة الحاضر والمستقبل اليمني.. نستعرض على صفحات “الديار” ما تيسر من حكاياته.. نفتح كتاب العمر لنقلب في أوراقه عن جوانب غير مرئية.. مثيرة وصارخة.. مؤلمة ومحزنة.. دامية ومبكية.. سرد لوقائع وأحداث.. أيام صعبة ومخاض عسير لأبعد حد.. إنها قصة عبدالملك الحوثي.. أسرار وخفايا.. صور ولقطات.. الأهل والأصدقاء.. الولادة من رحم المأساة وعنفوان التحدي لصناعة ما عجز عنه الكبار والأقوياء.. الزعامات والدول.. الحركات والأحزاب.. أبو جبريل أيقونة النصر وتعويذة الصبر.. ما تعرض له وما واجهه.. أفراح وأخطار.. احلام ومغامرات .. نقش على الصخر وارتقاء سلم المجد لأعلى.. رفيق القلم والبندقية.. المحارب الجسور بالكلمة والصرخة.. الحكيم المحنك والمغامر العنيد.. المتهم البريء والمجرم السفاح في تصنيف أعدائه.. المنتصر الذي لا ينهزم والرحمة المنزلة من السماء كما يراه محبوه وأنصاره.. المتخصص في خلط الأوراق وخلق الحوادث والأحداث.. العاصفة الناعمة والطوفان الكاسح.. كل التناقضات وجميع الأضداد.. حرف العلة وبلسم الشفاء.. علامة الاستفهام والتعجب.. القنبلة والسنبلة.. البازوكا والوردة.. اللغم والرمانة.. صاعق التفجير وعنقود العنب.. الوحش والحمامة.. رمز الخراب وعنوان البناء.. الجنة والجحيم.. الأحمر والأخضر.. غراب التشاؤم وعصفور التفاؤل.. الخوف والطمأنينة.. الرعب والأمل. أبو جبريل وكفى.. الملحمة الأسطورية التي قد لا يشعر هو بأنه يصيغ معالمها أو ربما لا يدرك أهمية وعظمة ما يتبلور على يديه.. فالانشغال الدائم والمستمر في الصراع والحروب يجعله وأصحابه لا يجدون ما يكفي من الوقت للتأمل فيما يقومون به.. ولولا أن هؤلاء البشر بمعزل عن العالم وبعيدون عن أضواء الإعلام العالمي لتواجدهم في اليمن المنسي بين الأمم وصعدة المدفونة تحت الأنقاض التاريخية.. لكان الحوثي عبدالملك أهم شخصية في الكون يتصدر مقارعة سيدة الدنيا أمريكا بجبروتها وسطوة قرارها.. منطلقا في مشروعه من العدم.. من الصفر.. من لا شيء.. سوى الفكرة النابعة من ملازم “الشهيد القائد” المؤسس.. لكن معه رجال لا يعصون له أمرا.. آلاف مؤلفة يجبونه أكثر من نفوسهم وأولادهم.. وعند هذه الجزئية يجب التوقف طويلا.
توجيهات الشهيد القائد
عمل عبدالملك بالتوجيهات الصادرة من شقيقه حسين في آخر أيام الحرب الأولى وهو لا يعرف أن تلك الرسالة ستكون الأخيرة.. لكنه نفذ ما جاء فيها.. انسحب من موقعه هو والمقاتلين الصامدين معه يفكر مليا بمقصد قائده وأخيه الذي كتب له يدعوه للاستعداد والتهيؤ لمرحلة جديدة.. هل كان يدري أن مسئولية القيادة ستلقى على كاهله في ظل وجود آخرين غيره من أخوته ورفاق شقيقه حسين يكبرونه سنا وشأنا وعلما؟! وهل كان يعلم أصلا أن قائده سيقتل بعد أقل من أسبوع؟! وحتى مثل هذه التساؤلات هل كانت تتبادر إلى ذهنه في اللحظات العصيبة؟!
قطعا لم يفكر أبو جبريل بهكذا أشياء أو أنه ذهب بتفكيره لما هو أبعد من الاحتمالات تلك قياسا بالنقلة النوعية التي حققها على صعيد حركة أنصار الله.. بيد أن التزام الجندي بأوامر القائد الذي جسده عبدالملك مع توجيهات حسين يوضح أهمية وفاعلية العمل بما يصدر من القيادة أثناء سير المعركة.. لو خالف الرجل توصيات المسئول الأول لكان الوضع –بالتأكيد- ليس كما هو الآن.. كان عبدالملك على الأرجح سيلقى حتفه في مترس القتال وبذلك تنتهي الحركة لو حسبنا ما حدث بما صنعه أبو جبريل من إنجاز بعدها.. إذ غادر مران منسحبا مكسور الخاطر دام القلب.. مقهور على الانتكاسة الحاصلة وحزين على الضحايا من المواطنين الأبرياء ورفاق السلاح الذين سقطوا في المعارك بينهم عدد من أشقائه وأبناء إخوته وأقاربه.. قد يكون أثناء الانسحاب المرير يفكر فيما سيتعرض له السيد حسين وأسرته من النساء والأطفال والمجاهدين المتحصنين في جرف سلمان.. أيضا والده الذي لا يعرف أين هو ما حل به وإلى أين يمضي وماذا بإمكانه أن يفعل.. لو أنه سمح للهزيمة أن تتسرب إلى نفسه لتعثر مع أول خطوة.. غير أن تحامله على الأوجاع بثبات وشكيمة وعزيمة فولاذية ساعدته كثيرا على التماسك والاندفاع باتجاه الخيارات الممكنة.. نسي مؤقتا الطعنات النفسية مستعينا بقراءة القرآن والاعتماد على الله بالدعاء ورباطة الجأش محتسبا ومستسلما لمشيئة الخالق المولى فكان الفرج الأشبه بالمعجزة.. حين وجد ذاته في صباح مشرق وهو يصلي صلاة الظهر بخيمة بدوي شهم في أطراف منطقة خالية من الحياة تسمى “نقعة”.. البقعة التي ستكون لاحقا نقطة التحول الجذري ومركز الانطلاقة المباركة.. تزودا بالماء والأكل من كرم البدوي الأصيل الذي لا يعرف شيئا عن ضيوفه الطارئين ولو أخبروه من هم لما عرفهم لعدم معرفته بما كان يدور آنذاك من أحداث وحروب.. يقال إن البدوي الوفي أرشدهم للطريق ودلهم على المكان الآمن وزادهم دقيقا ونعجة يحتلبونها في دربهم حيثما حطوا أو ارتحلوا.. وعند أول كهف يحتجب عن العيون بالتحاف الغيوم وافتراش الرمال قرروا الإقامة في هذه التجاويف الصخرية الموحشة بخلوها على عرش فضاءات قاحلة لا طير فيها ولا روح غير أصداء الرياح تلفح سفوح السلاسل الجبلية تمدهم بالشموخ والكبرياء كلما نزعت نوازع النفس الأمارة بالضعف والانهيار.
موعد مع الاقدار
في الطريق إلى “نقعة” كان أبو جبريل قد عرج على مناطق عدة بسرية تامة.. نشور وضحيان وآل الصيفي وقرى أخرى وفي كل زاوية كانت الأعين تتربص بهم وقوات الجيش وسلطات الدولة المنتشية بانتصارها في مران تتعقب كل “حوثي” متهم بالتمرد والشعار سعيا لتحقيق اهداف اجتثاث أتباع حسين بدر الدين الذي لا أدري متى وكيف عرف عبدالملك بما آلت إليه نهايتهم في جرف سلمان ومدى تأثير أخبار مزعجة كهذه على معنوياتهم.. لتنفجر الحرب الثانية والثالثة بسرعة وبشكل خاطف ومدة قصيرة وتودي بحياة الكثيرين ممن وجدوا اللحاق بركب الحسين حقا عليهم دونه الموت بنهج الكربلائيين.. وبذلك يزداد العبء على كاهل عبدالملك وهو يستغرق تفكيره في وصية قائده وسيده وأخيه حين أمره بالانسحاب والجهوزية للمرحلة القادمة.. فاستشعر مسئولياته مستخيرا وجه ربه بركعتين في غسق الليل البهيم.. وبالرغم من الحصار المطبق على كل الطرقات والمنافذ المؤدية إلى حيث يتواجد في أقصى الأرض.. إلا أن عددا لا بأس به من المخلصين والصادقين من أنصار الحركة استطاعوا الوصول إلى نقعة بمجرد أن علموا بتكتم شديد أن الرفاق لجأوا إلى هذا المكان ويتجمعون فيه.. التحق العشرات بالفارين بدينهم ومشروعهم وقناعاتهم الفكرية والمذهبية إلى نقعة.. جاء البعض بعوائلهم ومتطلبات العيش.. معظمهم هاربين من الملاحقة والإيذاء والامتهان والتهديد بالسجن والعقاب.. بدأوا ببناء مساكن متواضعة لهم في أعماق الجروف وغيل الماء القريب منهم يهديهم مقومات الحياة التي دارت على نحو غير متوقع كما لو أنهم أجمعين خرجوا من الأجداث ليواصلوا المشوار الصعب الذي يتحول عما قريب إلى مسيرة جامحة يقودها أبو جبريل.. الشخص المغمور والاسم محدود التداول.. وشيئا فشيئا يكبر البنيان والمساكن في تلك البقعة تتكاثر ويتكاثر الأتباع والأنصار.. يسجد عبدالملك شاكرا لله على هذا الفضل العظيم ومنه يتلمس ملامح النصر الموعود الذي تكلل في الحرب الرابعة بحجم مذهل دفع بالقائد الجديد للجماعة إلى الواجهة وصار حديث الساحة والساعة والسؤال يتسع وينتشر كل ساعة: من هو عبدالملك الحوثي؟!
ابن من هذا الفتى ؟
هو ابن امرأة صعدية حرة أبية من أسرة “آل العجري” المنتمين إلى مدينة العلماء “ضحيان” ووالده علم من أعلام الزمان.. العالم والمرجعية العلامة بدر الدين الحوثي.. المتفرد عن أبناء جيله بإنجابه من صاروا صناع مراحل تاريخية مفصلية في العصر الراهن.. بدر الدين الإنسان الأكثر من عادي في تعاملاته وأسلوب حياته.. المتواضع والزاهد والورع والبسيط في ملبسه ومشربه وعيشه.. الكبير بعلمه وبذله وعطائه وعمله.. إذ لم تكن علامات البحبوحة والرفاهية بادية عليه فهو الأقرب في الهندام وطريقة الكلام إلى الإنسان اليمني.. الفلاح والعامل.. الرعوي والجندي.. خلافا لما هو عليه حال الآخرين من بعض الهاشميين وعلماء ورجال الدين.. ومثله صفة وصفات كان وما يزال أبناءه تواضعا وبساطة وعلما وعملا وهو ما حبب العامة فيهم وجذب المواطنين إليهم.. فأسروا بصدقهم ومواقفهم واستقامتهم القلوب وبذلك الحب تعاظم الالتفاف معهم وإلى جانب رسالة دعوية ومشروع خلاص بات وهجه يتخطف الأبصار ويأسر الألباب.. فالقائد الشاب عبدالملك كان يغسل ملابس رفاقه دون حتى علمهم.. يؤثرهم على نفسه ولو كان به خصاصة ويضحي من أجلهم كما ضحى والده وإخوته قبله.. كانوا في تلك الليالي الحالكات في مران ونقعة يكابدون ما لا يصدق من المعاناة.. جوعا وعطشا.. حرا وبردا.. وجعا وآلام.. كانوا من باب الاحترام والتقدير يضعون له مكانة وتفضيل في كل شيء.. وهو كان يتركهم حتى يناموا ويأخذ بطانيته ويدفئهم بها ويلم ملابسهم ويغسلها بنفسية نبيلة وسمات قلما تتوافر في غيره.. ما يجعلهم تجاه مواقفه معهم ينزعجون ويتبرمون.. ليس من الحرج والحياء.. بل لممانعة أبو جبريل ورفضه مبادلته على الأقل ذات الخدمة.. لهذا وغيره من الحكايا يمكن فهم أسباب حب أصحابه له وأسرار منحهم الأرواح رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله تحت لواء أبو جبريل.. وحين يقص عليك أحد أصدقاء عبدالملك جوانب خفية من حياة هذا الرجل وأسرته تقف في ذهول وتفكير عميق.. تغرورق عيناك بالدموع وتخنقك النهدة.. حين تعرف أن أبو جبريل امتنع عن تناول القات إحساسا منه بأتباعه الذين لا يجدون قيمة أغصان الولعة.. حين تعرف أنه ذات مرة قطع اجتماعا هاما مع لجنة الوساطة القطرية ليلبي دعوة ومطلب مواطن كادح جاء مستنجدا به ورأى أن تأخير التجاوب معه إلى بعد انتهاء الاجتماع قد يؤثر سلبا على خاطر ذلك المواطن وهو الذي نذر نفسه لجبر الخواطر.. لإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم.. لفعل الخير ومواجهة الأشرار.. للعدالة والحرية والكرامة والعزة والإنسانية وهب حياته ولا يخشى في الله إلا التقصير في أداء الواجب والتفريط في الأعمال.. ذلك الذي بلغت شهرته وسمعته الآفاق.. يسكن في منزل كمساكن الناس العاديين.. من نراه في التلفزيون ونسمع عنه حكايات ومبالغات ليس هو في حقيقة الواقع.. قد يتعمد الظهور أمام الخصوم بما يليق بمقامه.. لكنه في الحياة العامة أقرب ما يكون للفقراء وطبقة المجتمع المتوسطة.. هو كريم لأبعد حد ولا يفوق كرمه غير شجاعته وعلمه.. صادق ووفي.. لم ينس رد الجميل للبدوي صاحب النعجة وأكرمه بهدية ثمينة وزيارات مستمرة.. منضبط في حياته.. يصحو وينام باكرا.. يقرأ كثيرا ويطالع الصحف ويتصفح الإنترنت ويلاعب الأطفال.. يمارس رياضة السباحة والمشي ويحرص على الالتقاء بأصدقائه القدامى ورفاق الطفولة.. مرح يحب النكتة البريئة كطباع خولان بن عامر.. يكتب الشعر وتطربه الأناشيد والفنون الإسلامية.. يتمرد أحيانا على الحراسات الأمنية المكثفة عليه ويمارس حياته بدون قيود يتنقل بسيارته من منطقة إلى أخرى.. يزور عالما في هذه القرية وضريحا لأحد الأولياء في تلك المدينة.. ما زال صغيرا مقارنة بالمكانة التي يتربعها حاليا كزعيم شعبي وقائد سياسي ورئيس جماعة هي الأقوى والأكفأ والأكثر طموحا وتقدما ونجاحا في بلادنا.. أبو جبريل.. السيد.. العلم.. الحوثي.. عبدالملك.. سفر طويل من التفاصيل الممتدة من الشغف إلى الإثارة.. تجربة شاب ملهم وقصة حياة مواطن يمني شق طريق المستحيل حتى وصل قمة المجد فأصبح يمنح ذكريات من عرفوه وعايشوه نكهة فخر ويكسبها أهمية بالغة.. فكل شيء صار مهما جدا ما دام متصلا بشخص أبو جبريل.. يخصه ويتعلق به.. يرتبط مباشرة بسيرته ومسيرته أو بمحض الصدفة.. إن عبدالملك الحوثي باختصار لا يشبه أحدا سواه.. يتفرد عن غيره وسواه بالكثير الكثير.. استعرضنا هنا الخطوط العريضة لحياة رجل ولد كي يغير وجه العالم.. وسنغوص في أعماق الحكايا والقصص عبر سلسلة حلقات قادمة تنفرد بنشرها “الديار” عن حياة شخصية فريدة من نوعها وسيرها وسيرتها.. نقدم للقارئ الصورة كما هي لا حقيقتها.. نكتبها بقلم الإعجاب وليس بكيبورد المدح والإطناب.. ننشرها ليعرف الجميع من هو أبو جبريل.
أنصار اللّه هي حركة سياسية دينية اصلاحية، تأسست عام 1990، وكانت تُعرف باسم "تنظيم الشباب المؤمن"، الذي أسسه السيد حسين بدر الدين الحوثي ، وبعد استشهاده عام 2004 انتقلت القيادة الى والده، ومنه الى ابنه السيد عبد الملك الحوثي.
حاول النظام اليمني السابق طيلة السنين الماضية القضاء على أنصار الله، فشنّ عليها ستّة حروب، انتهت جميعها بالفشل ، ويواجه أنصار الله منذ عام 2014 حتى الساعة، الى جانب الجيش واللجان الشعبية عدوان التحالف العربي بقيادة السعودية.
المصدر: الديار
الكاتب: عـابد الـمهذري