قرأت العديد من المقالات عن عملية جنين التي شنها الاحتلال في بداية تموز / يوليو من هذا العام، وتابعت سيل المواقف والتعليقات من سياسيين ومحللين، بل ومن قادة كبار استدراج الاحتلال لشبان المخيم المسلح لمربع الاشتباك والالتحام المباشر الذي يتفوق فيه العدو ليوقع اكبر عدد من الشهداء في صفوفنا وبالتالي يصل لتفكيك خلايا المقاومة ويضرب بنيتها التنظيمية ليفضي الي إنهاء الظاهرة من جذورها خاصة أن الاحتلال أعلن أنه تدرب واستعد لها منذ أكثر من سنة.
سيكون الانتصار كبيرا واكيدا، لو كان هدف العملية هو المعلن فقط، لكن لا بد لنا أن نقرأ الاحداث وسلوك العدو بعين ثالثة، ترى ما بين السطور وتلمح ما يضمر الكلام وما يخفي العمل، قبل وبعد العملية للأطراف جميعا الاحتلال والمقاومة وفريق المستثمرين في السلطة.
الهدف المعلن لعملية الاجتياح، فشل وسيفشل دوما كما فشل من قبل اجتياح نيسان / أبريل 2002، لكن الذي اثبت وأظهر فشل اجتياح نيسان بعد المقاومة والصمود الأسطوري في ملحمة المخيم وقت ذاك، هو تصاعد المقاومة وارتفاع منسوب شراستها بعد الاجتياح مباشرة، ولنا في عملية العسرة شاهد وفي عملية مجدو خير دليل.
حيث لم يكد العدو المأزوم في اجتياح 2002 يعلن عن اقترابه من سحق قادة المقاومة وبؤرة تمركزها في المخيم، وفي ذروة انتشائه بوهم النصر، وإذا بالشهيد القائد خالد زكارنة يرسل مع الاستشهادي راغب جرادات رسالة تقرأ بكل لغات الكون أن المقاومة قادرة ومقتدرة وستواصل فعلها المقدس، وهي ترسل أكثر من عشرة جنود الى الجحيم على مفرق الياجور حيفا.
وبعد أقل من شهرين، حيث واصل العدو حملاته المتعاقبة المتوالية للاجتياح الكبير، في سعي حثيث ومكثف لمسح معالم المقاومة، وكبح ثقافة الاستشهاد تقدم الشهيد إياد صوالحة وأرسل الاستشهادي حمزة السمودي برميلين من الرسائل المتفجرة التي أودت بأكثر من عشرين جنديا على مفرق مجدو ومعهم أوهام شارون وجنرالاته...
هذان المثالان وغيرهما العشرات كانا الرد الافصح بكل اللغات على فشل عملية (السور الواقي) ... لكن اليوم وبعد اجتياح تموز / يوليو 2023 أو عملية (البيت والحديقة)، هل المقاومة مستمرة وتواصل فعلها كما كانت؟ هل تزايدت وتيرتها؟ أم خبت وكمت وتراجعت؟
بكل تأكيد المقاومة موجودة وستبقى ما دام هناك احتلال، ولا يمكن خلق الفلسطيني الذي يرى الاحتلال ولا تحدثه نفسه بفعل الثورة والجهاد والاستشهاد، لكن لنسأل أنفسنا بشكل مباشر وصريح لماذا شن العدو عملية جنين في هذا التوقيت وبهذا الاستعراض الواضح!؟
رأيي المتواضع، جاءت هذه الحملة ردا عاجلا وضروريا على ثلاث تطورات لا يمكن للاحتلال وفريقه تجاوزها والصبر عليها.
التطور الأول تمثل بخروج المقاومة من حدود المخيم والمدينة، ليمارس فعله المقاوم على مساحات جغرافية، كانت طوال مدة شبه آمنة للمستوطنين وجيش الاحتلال.
ظاهرة جنين الحالية بدأت مع الشهيد جميل العموري في (سيف القدس)، بإطلاق النار على حاجز الجلمة أو سالم ثم جاءت عملية حومش البطولية التي نفذها الأسير القائد محمود جرادات ورفاقه، التي يبدو أنها أرادت من حالة جنين أن تتمدد، وتنتقل الي عقيدة قتالية هجومية ولا تتوقف عند الدفاع وأن توسع فعلها على مساحة الضفة المكتظة بعربدة المستوطن ذو النزعة الدينية المتطرفة التي تؤمن بالمحرقة للفلسطيني..
فكانت عملية حومش إشارة لجنين أن تخرج من الجغرافيا الصغيرة الي الجغرافيا المستحكمة بالنار والإرادة لتلاحق العدو، وهذا ما تكرر قبل عملية الاحتلال في جنين حيث خرج الابطال الي حرميش ثم الي يعبد في عمليتين جريئتين، وفي وضح النهار قتل خلالها مستوطن وفي الأخرى جرح مستوطن وأصيب عدد من الجنود المدججين الذين حاولوا اعتراض طريق المجاهدين الواعين بدورهم ومهمتهم.
هذا الخروج المستحكم من دائرة الجغرافيا الي دائرة الواجب الواعي بمسؤولياته كان من أبرز دواعي هجوم الاحتلال على جنين، ومن أبرز دواعي استيقاظ (أدوات الحرب الناعمة) الذين يريدون للمعركة أن تظل بسقف التباكي على الشهداء والجرحى وتعداد جرائم الاحتلال وتهديده بالمحاكم الدولية والملاحقات القانونية وإعفائه من (دفع الثمن) الذي يليق بدمنا.
أما التطور الثاني، فكان استخلاصا للعبر وتطويرا للأدوات أثناء دخول العدو للاعتقال أو الاغتيال أو الهدم، وتجلى هذا التطور في (مصيدة الجيبات) من خلال تفعيل عدد من العبوات المزروعة بعناية، لتوقع أكثر من 7 اليات عسكرية مصفحة في مجزرة راح ضحيتها عنجهية التفوق الاستخباراتي للجيش وأصيب فيها 7 جنود آخرين، كما اكتفى العدو بإعلانه.
هذا التطور، كان بالنسبة للعدو خطير لذاته وخطير لغيره... خطير لذاته لان العدو يدرك أنه إذا استمرت حالة تطور المقاومة (وجرأتها) على هذا المنوال فسيكون دخول جنين ومدن الضفة بعد سنة شبه مستحيل، وأن المقاومة كما أثبتت التجارب تتطور من خلال الاشتباك وليس في أوقات الراحة( إجبارية كانت أم اختيارية) فهذا التطور في الأداء المقاوم سيجلب الشلل لقوات المشاة والاليات، وسيصبح للمقاومة مناطق شبه آمنة نسبيا تمارس فيه الاعداد والتجهيز وتسيير الأفعال المقاومة خارج الجغرافية المحمية بالعبوات والنار. وهذا التطور تطور (خطير لغيره) أيضا كما أسلفنا لان المقاومين يمكن ان يدمجوا التطور الأول بالثاني لتكون له نتائج عالية الكلفة على المحتلين.
والعدو قرأ الخطر جيدا واستشعر نتائجه، فهو يدرك أن هذه العبوات لو استخدمت ضد المستوطنين وسياراتهم على طرقات الضفة مع وابل من النار فستوقع العشرات وستخلق ردعا كبيرا وستجلب للاحتلال وضعا امنيا ربما يكون استراتيجيا وذو ابعاد (وجودية) على تحركات المستوطنين وعنجهيتهم.
هذا التطور وامكانيات (تطوير التطور) كانت أيضا حافزا مباشرا لسرعة القرار وتنفيذ الاحتلال عملية جنين مع التضخيم الإعلامي لقدرات الجيش وردود فعله على أي عمل يمس هيبته وتفوقه.
التطور الثالث الذي أدى لتسريع البدء بعملية جنين، وهو ما يشاهده الجميع بالعين المجردة، ألا وهو ضعف السلطة في جنين، وفقدانها السيطرة على الشارع وغياب شعبيتها الرمزية رغم محاولاتها الصبيانية بركوب موجة الشهداء حتى بات الاحتلال يسعى بشكل مكشوف لتقوية الأجهزة الأمنية فيها، والدعوة لإعادة السيطرة والهيبة لها. وهذا ما جرى مباشرة قبل وبعد الاجتياح، حيث تحاول الماكينة الإعلامية الهائلة للاحتلال وجنود الحرب الناعمة، وأدواتهم لتظهير صورة نمطية مفبركة تظهر المقاوم بأنه يخرب ويتسبب بالهدم والدمار في مقابل (أدوات المنسق) يقومون بالبناء والاعمار وإصلاح الأضرار... وكأنهم هم المقاومون الحقيقيون بينما المقاوم بالسلاح هو المخرب، وهذا يستدعي من المقاومة أن توازي مع عملها الجهادي العمل الجماهيري لتحتضن حاضنتها وهو يستدعي إحياء كوادرها مما بعد انتفاضة الأقصى ليليقوا بماضيهم وحاضر التضحيات.
بمحصلة القول وخاتمته، عملية (البيت والحديقة) هل فشلت أم نجحت؟
بعد شهرين من العملية الاحتلالية، ما زالت المقاومة في جنين حاضرة وبقوة عند كل دخول احتلالي لجنين، في الليل والنهار، رغم زيادة وتيرة توحش جيش الاحتلال بالقتل واستعراض النخبة بقوتهم من الجو وعلى الأرض بهدف كي الوعي او اظهار صورة نصر أو علو يد للاحتلال، لكن المقاومة باقية ومتجذرة وهذا فعل طبيعي وإن حاول البعض جعله مستحيلا.
لذلك ولكي يستمر عدم نجاح العملية العسكرية للاحتلال، يجب ألا تكون المقاومة محصورة بالدفاع عن جغرافيا محددة وتبدو عندها كالمردوعة. كما يجب أن تحمل المقاومة تطورات ما قبل الاجتياح على التواصل والتطور والاستمرار، وأن تدرك دورها ورسالتها، وتحذر على وعيها من التطبيع أو التطويع أو التأطير. فدور المجاهد أن يكسر القوالب ويصنع النموذج ويواصل الابتكار بالإيلام المتجدد للكيان المؤقت، والاستنزاف المستمر لهيبة جيشه، فكل تراجع هزيمة ما لم يلحقه تقدم واقتحام للعقبة تلو العقبة (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون - يوسف:21).
الكاتب: الأسير عبد الرحمن طحاينة