خلال الحرب على سوريا، بدأت ملامح الوجه التركي وعلاقته بالبلاد العربية تتغير وحاول الأتراك التغلغل في داخل الدول العربية من خلال دعم مجموعات الإخوان المسلمين، وفي المجموعات المتناحرة للسيطرة على البلاد، والتي ابتدأت مع فوضى "الربيع العربي"، أو "الربيع العبري"، لأنه مثل حالة ربيعية بامتياز للكيان العبري، وابتدأ بالتحرك بمخابراته عبر الأراضي العربية بحرية مطلقة. بالطبع كان الأتراك خلال اثني عشر عاماً الماضية على تنسيق كامل مع الأميركيين من خلال غرفة "الموم" المتواجدة في تركيا مقابل غرفة "الموك" في الأردن، ولكن بعد مرور الوقت وفشل "الربيع العبري" في تحقيق معظم أهدافه وخاصة في سوريا ومصر وتونس وحتى في ليبيا، لم تتوقف العلاقة التركية مع الولايات المتحدة والناتو، بل ازدادت قوة بسبب اليأس الذي أصابهما نتيجة لفشل تحقيق معظم الأهداف.
بالتأكيد عند توضيح العلاقة القائمة ما بين تركيا والولايات المتحدة لا يمكن فصلها عما يمثّله انضمام تركيا لحلف الناتو، هذا الإنضمام الذي جعل تركيا جزءاً لا يتجزأ من منظومة التحالف الغربي ضد الإتحاد السوفياتي. بدأت تركيا باتخاذ طابع غربي المزاج في عهد كمال أتاتورك، غير أن ذلك لم يجعل تركيا، التي احتلت في زمن العثمانيين أجزاءً واسعة من أوروبا، مقبولة بالنسبة للأوروبيين وخاصة في اليونان وقبرص وهنغاريا التي كانت تحتلها. تغير التوجه نحو تركيا بعد إنضمامها إلى "منظمة معاهدة شمال الأطلسي" [الناتو] في العام 1952، تحالف فرضه موقعها الجغرافي على حدود الإتحاد السوفيتي سابقاً.
ولذلك كانت تعتبرتركيا دائماً خط الدفاع الأول ضد السوفيات ومن أجل حماية أوروبا من هجمات المعسكر الشيوعي أو الشرقي، اذ كانت تشترك بحدود مع الإتحاد السوفياتي مع الجمهوريات السوفياتية السابقة أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، إضافة إلى حدودها مع بلغاريا، والتي كانت ضمن المعسكر الشرقي. ولذلك في تلك المرحلة من الحرب الباردة التي شهدها العالم كان لموقع تركيا أهمية خاصة، وتدرك أهمية الموقع من خلال الأزمة الكوبية، فبعد نشر صواريخ أميركية نووية متوسطة المدى في تركيا تحرك السوفيات لنشر صواريخ روسية نووية متوسطة المدى في كوبا في العام 1962، والتي كادت تشعل حرباً نووية ما بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وبالتالي ما بين المعسكرين الشرقي والغربي. وانتهت الأزمة بوقف نشر الصواريخ الروسية في كوبا، مقابل سحب الصواريخ الأميركية من كل من إيطاليا وتركيا.
ومن هذا الباب يمكننا أن نفهم أهمية موقع تركيا بالنسبة للأميركيين ولحلف الناتو. ولكن تركيا كدولة وإن كان يقع جزء منها في أوروبا فهي لا تعني شيئاً بالنسبة لدول الإتحاد الأوروبي، والتي ترفض ضمها إليها مع العلم ان المواطنين الأتراك يمكنهم الحصول على فيزا شنغن. بعد انهيار الإتحاد السوفياتي بدأ تراجع العلاقات ما بين تركيا والاتحاد الأوروبي، خاصة وأن تركيا التي تلقت العديد من الوعود حول النظر في أمر انضمامها للإتحاد الاوروبي منذ العام 1999، ولكنها وعود لم تتحقق لا سيما بعد وصول رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية للحكم في العام 2001. بالنسبة للإتحاد الأوروبي فإن مجيء حزب العدالة دق ناقوس الخطر حول عودة تركيا المسلمة بعد أن اتخذت الطابع العلماني منذ انقلاب اتاتورك على السلطنة العثمانية والذي تميز بسيطرة "حزب الشعب الجمهوري" العلماني على الحكم منذ العام 1923.
عاد الدور التركي لاحتلال موقع هام في السياسة الخارجية الأميركية منذ العام 2011، وخاصة بعد أن كانت تركيا أحد الأذرع الهامة في الخطة الأميركية من أجل إعادة بناء الشرق الأوسط الأميركي الجديد. لعبت تركيا من خلال غرف الموم واحداً من أهم الأدوار في إشعال الحرب على سوريا من خلال الدفع بجموع الإرهابيين ودعم المعارضين سياسياً ومادياً في أنقرة، وليس هناك حتى اليوم تقدير حقيقي لأعداد الإرهابيين الذين أدخلتهم وسلّحتهم تركيا إلى سوريا، ولكن يمكننا بدء العد تقديراً، فبحسب مصادر خاصة فإن تركيا أدخلت خلال الحرب لإحتلال السرمانية في أطراف أريحا السورية ما لا يقل عن 45 ألف إرهابي مقاتل من النصرة في العام 2015 خلال معركة واحدة. ما فعلته تركيا كان من خلال التنسيق الكامل مع قوات التحالف التي كانت تدير المعركة من قاعدة عين الأسد في كردستان العراق. كما تم تمرير قوات داعش عبر الأراضي التركية إلى العراق في العام 2014، والتي احتلت حتى العام 2018 ما لا يقل عن 65% من الأراضي السورية في الجزيرة السورية، وهربت بالتنسيق مع الإرهابيين وبمباركة أميركية النفط السوري وتجهيزات المعامل السورية إلى تركيا لأكثر من أربعة أعوام متتالية.
بعد دخول الروس على خط الأزمة السورية في العام 2015، بدأ الموقف الروسي بالتذبذب، خاصة بعد منع القوات الروسية الأتراك من استخدام سلاح الطيران، والذي كانت من خلاله تقدم الدعم الجوي إلى جانب قوات التحالف للإرهابيين. وحاول أردوغان خلال تلك المرحلة التلاعب على الحبلين الروسي والأميركي لتحصيل مكاسب أكبر. ففي وقت أوقفت فيه أميركا صفقة مقاتلات الـ إف 35 وإف 18، تحالف أردوغان مع روسيا وقام بشراء منظومة صواريخ S400 الروسية، الأمر الذي فاقم توتر العلاقات مع الولايات المتحدة.
خلال المرحلة ما بين 2015 وحتى بدء الحرب الأميركية الروسية في أوكرانيا تراجع الدور التركي، أو انكفأ قليلاً، خاصة مع اعتماد الأميركيين على القوة التي شكلها الأكراد في سوريا تحت مسمى قوات سوريا الديمقراطية [قسد] والتي حاربت داعش.، كما لعب الأميركيون على الخلافات ما بين أكراد قنديل، وهم يمثلون طلائع قوات قسد، ومعظمهم ينتمي لتنظيم حزب العمال الكردستاني والذي تعتبره تركيا تنظيماً إرهابياً. وبحسب دراسة نشرها معهد واشنطن للدراسات فإن الإدارة الأميركية لديها مشكلة مع إدارة أردوغان بسبب العلاقة التي طورها مع روسيا، في حين أن الإدارة الأميركية كانت تفضل العمل مع مرشح "حزب الشعب الجمهوري" كمال كليجدار أوغلو. ومنذ أن أقام أردوغان علاقات مع موسكو بعد العام 2015، حاولت الولايات المتحدة تدبير إنقلاب في 2016 للإطاحة به.
كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تتأمل بأن يحقق كمال كاليجدار أوغلو انتصاراً في الإنتخابات الماضية/ والتي عادت وأتت باردوغان رئيساً للبلاد، وذلك بحسب ما نشره معهد واشنطن للدراسات في العام 2023، لكن وبحسب ما قاله كليجدار أوغلو في لقاء معه في وول ستريت جورنال، بأنه سيدعم العقوبات ضد روسيا، ولكنه سيحافظ على الإستثمارات التركية في روسيا وهنا لب المشكلة. تعرف أميركا أن الإستثمارات المتبادلة ما بين البلدين وخاصة في قطاع السياحة تعد ثغرة على الولايات المتحدة سدها إذا أرادت اجتذاب تركيا نحوها بشكل نهائي. ولهذا فقد لوحظ في هذا العام تدفق المستثمرين الأميركيين إلى تركيا لا سيما خلال شهر آب/ أوغسطس الماضي، وذلك من أجل سحب تركيا من الأحضان الروسية، إضافة إلى مراجعة ما يحدث في الشمال السوري.
لا تنظر الولايات المتحدة إلى تركيا بوصفها دولة ذات سيادة، بل تنظر إليها بوصفها تابع لشخص وبالتالي تابع للولايات المتحدة أم لا، تماماً كما تتحدث عن الرئيس بشار الأسد في سوريا أو عن الرئيس نيكولاس مادورو في فنزويلا أو عن الرئيس الراحل معمر القذافي في ليبيا، وغيرهم. وبالتالي فمبررات إنقلاب 2016 الذي دبرت له الولايات المتحدة ينطلق من هذا المبدأ، الذي سمح لها بتحقيق الإنقلاب في ليبيا ومحاولات إخضاع سوريا منذ 12 عاماً وحتى اليوم. والسبب الأهم وراء الإنقلاب هو تحجيم العلاقة التركية- الروسية، ولكن ذلك لم يأت أكله.
لذا فقد سمح الأميركي للأتراك بإبعاد قسد عن الحدود مع تركيا خلال القتال الذي دار ما بين قسد ومجلس العشائر. ويفترض أن يسهل ذلك لأردوغان إقامة منطقة عازلة على الحدود ويتم بذلك الإستجابة لمطالب الأتراك بإبعاد حزب العمال الكردستاني عن الحدود الجنوبية لتركيا مع سوريا. التنسيق بين أميركا وتركيا بدا جلياً خلال الشهر الماضي وهو يخدم المصلحة الأميركية بتبرير محاولات التقسيم في الشمال الشرقي السوري عبر إنشاء إدارة ذاتية كردية، والدفع نحو تبرير إقامة دولة درزية في الجنوب السوري تتمتع بنفس مواصفات الإدارة الكردية وسياسة كردستان العراق بحسب المقاييس الأميركية. لهذا فإن أميركا تحتاج لتركيا وللتنسيق معها من اجل تحقيق هذا المطلب.
هناك أيضاً الحاجة لتركيا من أجل ضمان أمن اوروبا خاصة في ظل ما يحققه الروس من إنجازات عسكرية كبرى في أوكرانيا. اذ نوقش خلال مؤتمر الناتو الأخير الذي عقد في يومي 11 و12 تموز/ يوليو خطة مفصلة وشاملة للدفاع ضد أي هجوم روسي محتمل، وتعتبر، بحسب الـ BBC، الخطة الأكثر عمقاً في مواجهة روسيا منذ الحرب الباردة، وقد نوه أردوغان في كلمته أمام المؤتمرين، أن تركيا قد تحملت العبء الأكبر في الدفاع عن أوروبا منذ أن انضمت إلى الناتو.
الحرب في أوكرانيا جددت الحاجة الأميركية للتقارب مع تركيا، فكانت بداية مع تحرك تركيا كوسيط مقبول ما بين موسكو وكييف من أجل تسهيل تصدير الحبوب وخاصة القمح الروسي والأوكراني إلى أوروبا والعالم. وازدادت هذه الحاجة الأميركية بعد الإنتصارات التي حققتها موسكو اليوم، ولكن إبعاد تركيا عن موسكو نهائياً يتطلب البدء باستثمارات أميركية كبرى تغطي ما تقدمه موسكو وأكثر، وبعد اجتماع الناتو بدأ تدفق الشركات الأميركية إلى مدينة بودروم التركية في 16 آب/ أوغسطس بشكل علني. وقد بدأ تدفق الإستثمارات الأميركية في بداية هذا العام، واكتسب حجم التبادل التجاري مع أمريكا نمواً كبيراً خلال النصف الأول من العام 2023، وبلغ حوالي 31,3 مليار دولار تتوزع مناصفة ما بين الصادرات والواردات، ويتوقع أن يرتفع حجم التبادل التجاري بعد بودروم من 60 إلى 100 مليار خلال السنين القادمة، بحسب TRT عربي.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU