"وحدة الساحات"، لم يعد شعاراً وهدفاً يطمح الى تحقيقه محور المقاومة، بل صار معادلةً قيد التبلور والتطور، لكي ترتقي وترسخ الدفاع المشترك بين مختلف الساحات ضد التهديدات الأمريكية والإسرائيلية، وهذا ما أطلقت مسار تحقيقه معركة طوفان الأقصى، وأثبتته التضحيات المبذولة في سبيل ذلك، قبل النتائج والتأثيرات.
وبعيداً عن تصورات البعض، الذي كان يعتقد بأن هذا الشعار سيدفع ساحات المحور - ما بعد اندلاع العدوان الأمريكي الإسرائيلي على قطاع غزة - الى شن الحرب الواسعة والشاملة (الحرب الكبرى)، فإن طبيعة مكونات هذا المحور وإمكانياتهم (ضد جيوش كلاسيكية أي القوات الأمريكية وجيش الإسرائيلي وغيرها من الدول التي حشدت كافة أنواع الدعم البحري والجوي العسكري لمساعدة الكيان المؤقت)، تفرض عليهم الالتزام التّام بأسلوب الحرب غير المتكافئة، وما يعنيه ذلك من التركيز على نقاط ضعف العدو، والمواجهة معه في الزمان والمكان المناسبين لحركات المقاومة لا العكس.
وهذا ما فرض على محور المقاومة التدرّج في مسار المشاركة (لأن هدفهم هو إيقاف العدوان)، من الدعم الاستخباراتي والمعلوماتي خلال المواجهة العسكرية (الذي حصل سابقاً في العديد من المواجهات بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال خاصةً خلال معركة سيف القدس 2021)، الى تنفيذ عمليات متدرّجة بالكم والنوع ضد أهداف وقواعد أمريكية عسكرية (كونها الطرف الوحيد المسؤول عن استمرار العدوان)، ومن ثم تطوير هذه العمليات لتشمل أهداف ذات طابع مدني تؤذي كيان الاحتلال الإسرائيلي اقتصاديا، من خلال استهداف سفن الشحن القادمة الى الأخير، واستهداف منشأة استخراج الغاز في كاريش. مع الإشارة الى أن قادة محور المقاومة تركوا احتمالات التوسع في المشاركة مفتوحة على كل الخيارات، ومن ضمنها الحرب الواسعة والشاملة. وهذا ما أشار إليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابيه خلال طوفان الأقصى، في الأول بمناسبة تكريم الشهداء على طريق القدس حينما بيّن الأهداف والخطوط الحمراء بالنسبة للمحور مع إبقاء جميع الاحتمالات مفتوحة. وفي الثاني بمناسبة يوم الشهيد (11-11-2023)، حينما أكّد على استراتيجية الغموض البناء بالقول بأن "الكلام سيكون للميدان" وهو الذي سيعبّر عن نفسه بنفسه.
فكيف تبلورت وحدة الساحات عملياً؟
مما لا شكّ فيه بأنه كان اليمن الدور الأكبر والأبرز في بلورة هذه المعادلة ميدانياً، بحيث استطاع أن يجعل تداعيات العدوان الإسرائيلي الأمريكي على غزة عالمية بعدما كانت إقليمية، من خلال فرضه لمعادلة الحصار بالحصار، عبر منع سفن الشحن المتوجهة الى فلسطين المحتّلة من المرور عبر مضيق باب المندب، وهو ما ردّت على أمريكا بتشكيل ائتلاف بحري دولي لمهمة "حارس الازدهار" لمواجهة هذا التهديد الاستراتيجي (أي ليس عبر قدراتها وحدها بل إشراك دول أخرى في مهمة يستحيل تنفيذها لكيلا تكون التكاليف والخسائر عليها فقط). فكان الردّ الحاسم على ذلك، من قبل قائد حركة أنصار الله السيد عبد الملك الحوثي، الذي أكّد على الاستمرار في هذا النهج المتصاعد مهما كانت التحدّيات والنتائج، بل ومعلناً استعداد اليمن للردّ بقوة على أي اعتداء يطاله نتيجةً لذلك، ومن أي طرف أو جهة دولية كانت.
ولا بد هنا من الإشارة، إلى أن حكومة صنعاء شدّدت أكثر من مرّة بأن هذه المعادلة تقتصر على السفن المتوجهة من والى الكيان المؤقت حصراً، وبالتالي لا يوجد أي تهديد للتجارة العالمية، وهو ما تحاول الإدارة الأمريكية الترويج لعكسه.
وعليه كانت نتائج هذه الخطوة مهمة للغاية في دعم القضية الفلسطينية، ومكمّلة للخطوات السابقة من اخلال استهداف مدينة أم الرشراش (إيلات) بالصواريخ والطائرات المسيرة. فقد تم الكشف مؤخراً، عن هبوط نشاط ميناء إيلات الى نسبة 85%، جراء هجمات الجيش اليمني واللجان الشعبية على سفن الشحن الإسرائيلية. ولهذا الميناء أهمية اقتصادية كبيرة بالنسبة للاحتلال:
_هو الميناء الوحيد الذي يربط الكيان بمنطقة شرق آسيا، والذي يتيح لإسرائيل تجاوز قناة السويس. وتقدر الواردات الآتية من الشرق إلى "إسرائيل" بحوالي 95 مليار دولار سنوياً.
_إغلاق باب المندب بوجه السفن الإسرائيلية، سيطيل مدة السفر لسفن الشحن الآتية من الشرق إلى فلسطين المحتلة عبر المسار الملتف حول قارة أفريقيا، بنحو 4-5 أسابيع. وهذا ما سيرفع أسعار المنتجات المستوردة لإسرائيل بنسبة تُقدر بـ 3% أي حوالي 3 مليار دولار.
_حجم استيراد الاحتلال عبر البحر ما نسبته 99%، 30% منها عبر البحر الأحمر.
وفي هذا الإطار، كان لافتاً ما كشفه تقرير في موقع "غلوبز" الإسرائيلي نقلاً عن ضابط إستخبارات إسرائيلي، الذي وصف المسيّرات البحرية التي يمتلكها الجيش اليمني بسلاح دمار شامل، تهدد إسرائيل على المستوى الاستراتيجي والعسكري. مضيفاً بأن اليمن يمتلك مخزوناً كبيراً من الصواريخ والطائرات المسيرة، وما لا يقل عن 100 ألف مقاتل، إضافة إلى الميزة الجغرافية التي يتمتع بها عبر موقعه الاستراتيجي على سواحل البحر الأحمر، وهو ما حوّله إلى "خطر واضح وملموس على إسرائيل". مؤكّداً بأنّ القوات المسلحة اليمنية مجهزة بأفضل الصواريخ الباليستية، وصواريخ كروز والطائرات دون طيار وحتى وسائل إبحار غير مأهولة، والتي أطلقت صنعاء بعضها على "إسرائيل" منذ نحو شهرين، مشيراً إلى أن اليمنيين "قادوا حصاراً حقيقياً للبحر الأحمر ويُلحقون ضرراً شديداً بنا، وهذا أهم ما في الأمر".
الساحة العراقية: القدرة على استهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية معاً
منذ الأيام الأسابيع الأولى للمعركة، تحركت الساحة العراقية بكل قوة لدعم المقاومة الفلسطينية، من خلال توجيه ضربات صاروخية وعبر الطائرات المسيّرة ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، بحيث تخطّت الهجمات عتبة الـ 100 عملية. وقامت المقاومة الإسلامية العراقية بتنفيذ عملياتها بتدرج، حتى باتت تضرب أهدافاً إسرائيلية في إيلات المطّلة على البحر الأحمر، وضد منشأة كاريش الغازية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، مسُتخدمة العديد من القدرات النوعية الصاروخية التي يتجاوز مداها الـ 400 كم، مثل صاروخ كروز (لم تُعلن المقاومة عن اسمه بعد) وطائرات مسيّرة بعيدة المدى. وهذا ما يكشف بأن المقاومة العراقية لديها القدرة المادية والبشرية، على ضرب أي هدف في فلسطين المحتلة.
لبنان: الساحة التي لم تعبأ بالتهديدات الأمريكية والتي تُرعب الإحتلال
منذ الـ 8 من تشرين الأول / أكتوبر 2023، شاركت المقاومة الإسلامية في لبنان – حزب الله في معركة طوفان الأقصى الى جانب المقاومة الفلسطينية، من خلال فتح جبهة استنزاف حقيقية للكيان المؤقت، على الصعيد العسكري والاستيطاني.
فحزب الله استطاع من خلال هذه الجبهة، إلزام جيش الاحتلال على تخصيص ثلث قوته تقريباً، من العديد والمدرعات والطائرات الحربية والمروحية ومنظومات الدفاع الجوي، خوفاً من احتمالية دخوله المباشر والواسع في المعركة. كما فرض النزوح على حوالي 100 ألف مستوطن في المنطقة الشمالية، وما يعنيه ذلك من خسائر اقتصادية كبيرة للكيان.
ومن جهة أخرى، نفذ مقاومو الحزب بشكل يومي، العديد من العمليات الهجومية ضد أهداف جيش الاحتلال (التي وصل عددها في بعض الأيام الى 22 عملية)، مستخدمين الأسلحة المضادة للدروع بشكل رئيسي، والأسلحة المدفعية والصاروخية والرشاشة المناسبة لكل هدف (مع التركيز على المنظومات التجسسية والاستعلام القتالي). وفي الوقت عينه فرض الحزب على جيش الاحتلال قواعد ردع واشتباك تناسبي، تصعّب عليه خيار استهداف المدنيين لأن ذلك سيؤدّي الى استهداف مستوطنيه بالمقابل. لكنه أعطى الضوء الأخضر للمقاومين باستهداف أي جندي إسرائيلي يظهر أمامهم، حتى لو كان عدد الجنود الإسرائيليين يصل الى 100.
ومع استمرار العدوان على قطاع غزة، سيكون لهذه الجبهة مسارها التصاعدي الواضح أيضاً، الملتزم بتحقيق وحدة الساحات وغير العابئ بالتهديدات الإسرائيلية أو الأمريكية، إلى أن يتوقف العدوان على قطاع غزة، عندما تدرك إسرائيل وأمريكا بأنهما يغرقان في رمال غزة المتحركة، سعياً وراء سراب نصر كامل.
الكاتب: غرفة التحرير