شكّل سلاح الجو الإسرائيلي، منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي، العمود الفقري لعقيدته العسكرية والركيزة الأساسية لفرض هيمنته الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وقد سمح له ذلك بتنفيذ ضربات خاطفة في العمق العربي، وفرض قواعد اشتباك تحفظ له التفوق العملياتي في مختلف الحروب. غير أن هذا التفوق أضحى مهددًا في مواجهة إيران في هذه الحرب القائمة، لا سيّما بعد بروز مؤشرات على عجزٍ بنيوي لدى العقيدة الجوّية الصهيونية في التعامل مع بيئة معقّدة وممانعة بحجم إيران.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل أسباب فشل العدو الإسرائيلي في تحقيق التفوق الجوي في المواجهة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في ضوء تطور العقيدة الدفاعية الإيرانية القائمة على الكمائن الجوية، وتنامي قدراتها الصاروخية الباليستية والفرط صوتية، وما ترتّب على ذلك من خلخلة للأمن القومي الإسرائيلي وزعزعة للجبهة الداخلية.
أولاً: التفوق الجوي الإسرائيلي – مرتكزات ومحددات
اعتمد الكيان الإسرائيلي على تفوقه الجوي منذ عدوان 1967 وحتى عدوان غزة الأخير، وصولاً الى أولي البأس، مرتكزًا على عناصر ثلاثة:
- المبادرة الهجومية: ضربات استباقية على مراكز القيادة والسيطرة.
- السيطرة على سماء المعركة عبر طائرات شبحيّة ومتطوّرة تعتبر فخر الصّناعة الأميركيّة، المدعومة بقدرات استطلاع واستخبارات عالية الدقة.
- الدمج بين التفوق الجوي والمنظومات الدفاعية (القبة الحديدية، مقلاع داوود، حيتس).
لكن هذه الاستراتيجية أثبتت نجاعتها أمام بيئات رخوة أو غير متماثلة، لا سيما في مواجهة فصائل المقاومة أو جيوش متآكلة. أما في مواجهة دولة عميقة كإيران، فإن البنية العملياتية الإسرائيلية تُظهر عجزًا واضحًا في تحقيق التفوق الجوي دون خسائر فادحة.
ثانيًا: استراتيجية الكمائن الجوية في العقيدة الإيرانية
لا تعتمد إيران في عقيدتها الدفاعية على مواجهة الطيران الإسرائيلي بالأسلوب التقليدي، بل تبنّت ما يُعرف في علم العسكر بـ"الكمائن الجوية"، والتي تشمل ما يلي:
- التوزيع اللامركزي للرادارات: اعتماد الرصد السلبي لرصد الطائرات دون كشف موقع الرادارات.
- التنشيط اللحظي للدفاعات: تُفعل الأنظمة الدفاعية فقط عند دخول الطائرة في المدى القاتل.
- تعدد الطبقات الدفاعية: من أنظمة قصيرة المدى (مثل رعد وتلاشا) إلى متوسطة (مثل سوم خرداد) وطويلة (مثل باور 373).
- تكامل الهجوم والدفاع: تحويل الدفاع إلى فخّ هجومي عبر استدراج الطائرات ثم الردّ بالصواريخ أو المسيّرات.
ثالثًا: فشل التفوق الجوي الإسرائيلي أمام الكمائن والدفاعات الإيرانية
إنّ اختراق الأجواء الإيرانية والإطباق عليه بالكامل يصطدم بعوائق عملياتية كبيرة:
- المجال الجغرافي الواسع لإيران يجعل من التخفي الجوي شبه مستحيل.
- تعدد أنظمة الدفاع الجوي ذات المصادر المختلفة يعقّد من مهمة التشويش والتعطيل.
- نقاط الإقلاع البعيدة للطيران الإسرائيلي تجعله مكشوفًا على طول المدى العملياتي.
- الهجوم المعاكس على القواعد الجوية في النقب والجليل بواسطة صواريخ دقيقة أو مسيّرات بعيدة المدى.
رابعًا: التفوّق الصاروخي الإيراني: سلاح الردع والرد
إيران لم تكتفي بالكمائن الجوية، بل أكملتها بهجوم ردعي عبر:
- الصواريخ الباليستية الدقيقة.
- الصواريخ الفرط صوتية، والّتي يصعب اعتراضها بسبب سرعتها وقدرتها على المناورة.
- بدء ضرب مراكز القرار والقيادة العسكرية الإسرائيلية كرد تصعيدي مع تعقيد الأمور للضّغط على الجبهة الدّاخليّة أكثر.
- توسيع الرد ليشمل حلفاء الكيان في حال توسّعت المواجهة (قواعد أميركية، إلخ).
خامسًا: التأثير على الأمن القومي والجبهة الداخلية الإسرائيلية
إن زوال التفوق الجوي يعني اهتزاز الركيزة الاستراتيجية لكيان الاحتلال، ويترتّب عليه:
- شلل عملياتي في القدرة على شن ضربات خاطفة في المراحل المتقدّمة من المواجهة القائمة.
- عجز عن حماية الجبهة الداخلية من وابل الصّواريخ والمسيّرات.
- تآكل الثقة بمؤسسات الجيش والأمن القومي، ما سيؤدّي إلى انهيار الجبهة الدّاخليّة والدّخول في أتون الحرب السّياسية الدّاخليّة لتغيير الحكم وصعود المعارضة.
الخاتمة:
أظهرت التطورات العسكرية الأخيرة أن التفوق الجوي الإسرائيلي لم يعد حاسمًا، بل مهدّدًا بفعل استراتيجية الدفاع الإيرانية القائمة على الكمائن الجوية والهجوم الصاروخي الدقيق. لقد تمكّنت إيران من إرساء معادلة ردع جوية جديدة، لا تعتمد فقط على الصد، بل على الهجوم وإرباك العدو في عمقه.
النّفس الخطابي في خضمّ الحرب للجمهورية الإسلامية في إيران:
- الإصرار على مواصلة تطوير القدرات الصاروخية الباليستية والفرط صوتية كركيزة استراتيجية لردع التفوق الجوي الصهيوني.
- تكثيف العمل على منظومات الحرب الإلكترونية والتشويش الراداري لتعطيل الاستهداف الإسرائيلي الدقيق.
- تعزيز جاهزية الجبهة الداخلية الإيرانية لحرب دفاعية طويلة الأمد، خصوصًا على مستوى البنى التحتية والمجتمع المدني.
- استثمار هذا التفوق في قلب موازين القوى في المنطقة، باعتبارها أرست معادلات جديدة على كيفيّة دخولها المفاوضات، وإملاء شروطها بانتشال المنطقة من مستنقع الحكم الصّهيوني، وتغيير التّحالفات الإقليميّة بناءً على تغيّر موازين القوى، وفرض معادلات جديدة تتجاوز قواعد الاشتباك القديمة.
- سياسة الاستنزاف المتّبعة من القيادة العسكريّة الإيرانيّة بإدارة المعركة كمعركة طويلة الأمد، لفقد العنصر الأساسي من الإستراتيجيّة السّيكولوجيّة (الصّبر والتّماسك) والّتي ترجّح كفّة النّصر لممارسها.
الكاتب: أحمد علاء الدين