تحت ستار المفاوضات، تعيد "إسرائيل" صياغة استراتيجيتها الدائمة: كسب الوقت، تدمير المقاومة، وفرض وقائع جديدة على الأرض. منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار في 19 يناير/كانون الثاني 2025، كانت المرحلة الثانية من الاتفاق مجرد سراب في صحراء السياسة "الإسرائيلية"، مؤجلةً إلى أجل غير مسمى، بذرائع أمنية ودبلوماسية. وعلى النقيض من ذلك، تُظهر المقاومة الفلسطينية التزامًا واضحًا بالاتفاق، بينما تمارس "إسرائيل" لعبتها المعتادة: وضع شروط تعجيزية، انتهاك الالتزامات، واستخدام المفاوضات كسلاح آخر لتعزيز احتلالها وتوسيع نفوذها.
"إسرائيل" والمفاوضات: أداة للهيمنة وليس للسلام
لطالما كانت المفاوضات، في سياق الصراع الفلسطيني-"الإسرائيلي"، سلاحًا فعالًا في يد "إسرائيل"، لا لتحقيق تسوية عادلة، بل لتكريس الاحتلال وتقويض أي احتمال للمقاومة الفعالة. الآن، في ظل اتفاق وقف إطلاق النار، نرى ذات التكتيك القديم: الإعلان عن التزام ظاهري بالمفاوضات بينما يُمارَس العكس تمامًا على الأرض.
نتنياهو، في اجتماعات الكابينت الأخيرة، لم يكن يناقش كيفية تنفيذ الاتفاق، بل كيفية إفشاله دون تحمل المسؤولية. الفكرة بسيطة: تأخير المراحل المقبلة من الاتفاق، خلق أزمات مصطنعة، ثم اتهام الفلسطينيين بالتعنت. هذه ليست مجرد تكتيكات سياسية؛ إنها عملية مدروسة تهدف إلى إعادة إنتاج الواقع الاحتلالي، بحيث يصبح قبول الاحتلال، أو على الأقل التعايش معه، الخيار الوحيد الممكن أمام الفلسطينيين.
وبينما تواصل "إسرائيل" المماطلة، يدرك قادة المقاومة الفلسطينية هذه اللعبة، لكنهم يواجهون معضلة مزدوجة: إما التصعيد العسكري، مما سيُستغل دوليًا لتبرير مزيد من القتل والدمار، أو التمسك بالمفاوضات، مما قد يُستخدم ضدهم كدليل على خضوعهم لشروط الاحتلال. إنه الفخ "الإسرائيلي" الكلاسيكي: إجبار الضحية على الاختيار بين السيئ والأسوأ، بينما تواصل القوة المحتلة استراتيجياتها التوسعية بلا مساءلة حقيقية.
الموقف "الإسرائيلي": تردد وانقسامات داخلية
التقارير الأخيرة تكشف عن انقسام متزايد داخل القيادة الإسرائيلية بشأن كيفية التعامل مع المرحلة الثانية من الاتفاق. ورغم إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي بدء المفاوضات، إلا أن الاجتماع الأخير للكابينت انتهى دون اتخاذ قرارات حاسمة. كما أن الوفد الإسرائيلي الذي غادر إلى القاهرة يحمل تفويضًا جزئيًا فقط، مما يشير إلى غياب موقف موحد داخل الحكومة الإسرائيلية.
الملفت أيضًا هو تصاعد التوتر بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورؤساء الأجهزة الأمنية، حيث تم استبعاد رئيسي الشاباك والموساد من مناقشات أمنية حساسة، ما يعكس خلافات عميقة داخل المؤسسة الإسرائيلية حول كيفية التعامل مع الملف.
نتنياهو وترامب: تحالف الاستعمار الجديد
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بتهديداته المتزايدة حول تصعيد عسكري “غير مسبوق”، لا يفعل سوى تأكيد أن السياسة الأميركية لا تزال، كما كانت دائمًا، أداة لتكريس التفوق "الإسرائيلي" في المنطقة. فالإدارة الأميركية، بغض النظر عن الحزب الحاكم، تُعيد إنتاج الخطاب ذاته: دعم "إسرائيل" تحت أي ظرف، وتمييع أي اتفاق يمكن أن يمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.
نتنياهو يدرك تمامًا أن دعم ترامب ليس مجانيًا، لكنه يدرك أيضًا أن الولايات المتحدة لن تضغط بجدية على "إسرائيل" لإنهاء الحرب أو الشروع في إعادة الإعمار. ولذلك، فإن استراتيجيته تعتمد على استغلال التردد الأميركي وتحويله إلى غطاء دبلوماسي لمزيد من التصعيد. من هنا، يصبح وقف إطلاق النار مجرد مرحلة مؤقتة، يتم تمديدها أو إنهاؤها وفقًا لحسابات تل أبيب، وليس وفقًا للالتزامات التفاوضية.
الهدف الحقيقي: إعادة هندسة غزة
لكن المسألة ليست فقط مماطلة "إسرائيلية" أو تواطؤ أميركي، بل تتجاوز ذلك إلى مشروع أوسع: إعادة هندسة غزة سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً. المرحلة الثانية من الاتفاق ليست مجرد تفاوض حول تبادل أسرى، بل هي مفترق طرق سيحدد ما إذا كانت غزة ستُعامل ككيان له الحق في تقرير مصيره، أم كمجرد جيب محاصر يُدار وفقًا للرغبات "الإسرائيلية".
المماطلة في إدخال المساعدات الإنسانية، ورفض إدخال منازل متنقلة لإيواء مئات الآلاف من النازحين، ليسا مجرد خطوات تكتيكية، بل جزء من خطة لإبقاء غزة في حالة دمار مستمر، بحيث تصبح غير قابلة للحياة، ما يدفع سكانها إلى التفكير في الهجرة القسرية، وهو المخطط الذي سعت إليه إسرائيل منذ عقود.
السيناريوهات المحتملة: إلى أين تتجه الأمور؟
مع استمرار حالة عدم اليقين، يمكن حصر السيناريوهات المحتملة في مسارين رئيسيين:
في كلتا الحالتين، يبقى الوضع في غزة معلقًا بين حسابات السياسة والأمن، بينما يستمر المدنيون في دفع الثمن الأكبر. الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد الاتجاه الذي ستسلكه هذه المفاوضات، سواء نحو حل سياسي مستدام، أو نحو جولة جديدة من التصعيد العسكري
المستقبل: مقاومة أم استسلام؟
إن القراءة الدقيقة للموقف الحالي تكشف أن الخيارات المطروحة ليست متكافئة. "إسرائيل" لا تفاوض بقدر ما تفرض وقائع، وتعيد صياغة الاحتلال تحت مسمى “التسوية”. أما المقاومة الفلسطينية، فإما أن تقبل بهذه الشروط المُذلّة، أو تواجه عدوانًا جديدًا سيتواطأ الغرب في تبريره كما حدث في الحروب السابقة.
لكن المقاومة، على الرغم من كل شيء، لا تزال صامدة. ورغم حجم التضحيات، فإن إدراك الفلسطينيين لطبيعة هذه الحرب – ليس فقط كحرب عسكرية، بل كحرب على الوجود والهوية – يجعل من الاستسلام خيارًا غير مطروح. في النهاية، وكما كان الحال عبر التاريخ، لن تكون القضية الفلسطينية رهينة مفاوضات يُديرها المحتل، بل ستُحسم بإرادة الشعب، الذي يدرك أن حقوقه لا تُمنح، بل تُنتزع.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com