نفّذت القوات المسلحة اليمنية عمليتين عسكريتين متزامنتين: الأولى استهدفت سفينة في البحر الأحمر وأدّت إلى غرقها، والثانية هجوم صاروخي وجوي طال مواقع استراتيجية في عمق كيان الاحتلال. هذا التصعيد النوعي جاء في توقيت بالغ الدقة، يتقاطع فيه المسار العسكري مع مفاوضات سياسية حساسة تُجرى العاصمة القطرية الدوحة، وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
العمليات اليمنية، وإن كانت تُقدَّم بوصفها رداً على الاعتداءات الإسرائيلية ودعماً لغزة، إلا أنها باتت تعكس مشروعاً عسكرياً مستقلاً، يُعاد عبره تشكيل المعادلات الإقليمية، من خارج طاولة التفاوض.
البيان اليمني تضمّن تفاصيل دقيقة لعمليتين: في العملية البحرية، استُهدفت السفينة "ماجيك سيز" بزورقين مسيّرين وخمسة صواريخ (باليستية ومجنحة) وثلاث طائرات دون طيار. الهجوم أدى إلى تسرب مياه وإصابة مباشرة. في العملية الثانية، أُطلقت 11 صاروخاً، بينها صاروخ فرط صوتي من طراز "فلسطين 2"، إلى جانب طائرات مسيرة، باتجاه أربعة أهداف داخل الكيان: مطار بن غوريون، ميناء أسدود، محطة كهرباء عسقلان، وميناء أم الرشراش. بحسب البيان، وصلت الضربات إلى أهدافها بدقة، دون أن تتمكن منظومات الدفاع الجوي من اعتراضها.
من زاوية عسكرية، تُظهر هذه الضربات انتقال صنعاء من نمط ردود الفعل المحدودة إلى عمليات مركّبة ومتزامنة، يجري من خلالها التحكم بجبهتين: البحر الأحمر وداخل العمق الإسرائيلي. أما من زاوية سياسية، فهي تعني أن اليمن لم يعد يتصرف كطرف داعم فحسب، بل كطرف مُقرِّر في ميزان الردع.
تأتي هذه العمليات بينما يتصدر المشهد مفاوضات إقليمية ودولية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة. المقترحات المتداولة تشمل هدنة مدتها 60 يوماً، تبادلاً للأسرى، وإدخال مساعدات، دون التزام واضح بانسحاب إسرائيلي كامل أو وقف دائم للعمليات.
في المقابل، تزامنت الضربات اليمنية مع زيارة نتنياهو إلى واشنطن، ولقائه الرئيس ترامب. حتى لحظة كتابة هذا المقال، لم تصدر مواقف نهائية عن نتائج اللقاء، لكن المعطيات الأولية تشير إلى تمسك إسرائيل بشروطها الأمنية، وفي مقدمتها "تفكيك قدرات حماس"، بينما تحاول إدارة ترامب تمرير اتفاق مؤقت دون تنازلات استراتيجية.
في هذا السياق، يُفهم التصعيد اليمني كرسالة خارج قنوات التفاوض، مفادها أن أي اتفاق لا يلحظ الديناميات المستجدة في البحر الأحمر وفي جبهات ما بعد غزة، لن يكون قابلاً للثبات أو التنفيذ.
منذ بداية الحرب على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحدّثت واشنطن وتل أبيب عن سعيهما إلى "فرض معادلات أمنية جديدة" في الإقليم، تقوم على الردع الموسع وإعادة ضبط قواعد الاشتباك. لكن الضربات اليمنية الأخيرة، وقبلها سلسلة العمليات البحرية التي طالت عشرات السفن، تطرح أسئلة جدية حول فاعلية هذه المعادلات.
رغم ما أعلنته إسرائيل عن تعزيز دفاعاتها الجوية، وصلت الصواريخ والمسيرات إلى مطارها وموانئها الحيوية. ورغم التهديدات الأميركية، استُهدفت سفينة كبرى، وغرقت، دون ردّ عسكري مباشر. هذا لا يشير فقط إلى فجوة في الردع، بل إلى إدراك متنامٍ بأن المعادلة الحقيقية تتشكل خارج الاتفاقات المعلنة، وبوسائل لم تعد واشنطن وحدها تملك مفاتيحها.
اللافت أن إسرائيل لم ترد بعد على عمليات 7 تموز بعد، لا سياسياً ولا عسكرياً. ويُحتمل أن يكون هذا الصمت مؤقتاً، بانتظار بلورة مخرجات المفاوضات في الدوحة، أو نتيجة حسابات مرتبطة بالعلاقة مع إدارة ترامب.
الواقع، أن اليمن، بقوة محدودة من حيث الموارد، بات يملك قدرة التأثير في القرار الإقليمي عبر أدوات فعالة: صواريخ ومسيرات وزوارق هجومية، في إطار عسكري منضبط يختار توقيتاته بعناية.
لم تعد الضربات اليمنية مجرد رسائل تضامن، بل باتت أدوات استراتيجية تؤثر فعلياً على مشهد التفاوض. في غياب تمثيل رسمي في طاولة المفاوضات، يفرض اليمن حضوره. وإن كانت واشنطن وتل أبيب تسعيان إلى إنهاء الحرب بشروطهما، فإن مَن يملك أدوات الضرب في البحر والجو، بات أيضاً من يملك حق الفيتو على أي تسوية لا تعترف بتوازنات جديدة.
هذا التحول، بقدر ما يعبّر عن تصعيد، يكشف هشاشة هندسة "الاستقرار بالقوة" التي راهنت عليها إسرائيل والولايات المتحدة منذ أكثر من عام ونصف. فهناك أطراف -مثل اليمن- لا تفاوض، لكنها تُجيد الضغط، وتُحسن اختيار اللحظة.
الكاتب: غرفة التحرير