كان أحد أهم الأسباب التي عقدت لأجلها القمة الأخيرة في إيران، معالجة الانتهاكات التركية في سوريا ووقف العملية العسكرية التركية التي كان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بصدد خوضها. وفيما تشير المعلومات عن توقف الفعلي لهذه العملية، تشير صحيفة فايننشال تايمز إلى ان اردوغان المأزم انتخابياً، كان ينوي خوض هذه العملية لشد العصب والاستفادة دعائياً لجذب الرأي العام التركي. في حين تبقى الأيام المقبلة هي الحاسمة بشأن التزام اردوغان بوقف العملية فعلياً، ام ان حساباته توضع ضمن إطار آخر.
صحيفة "فايننشال تايمز" تساءلت من جهتها، عن خطة تركيا الكبرى في سوريا. وقالت "إنه مع غروب الشمس تتحول نقطة الحدود في بلدة أونجو بينار في منطقة كلس، حيث تظهر حالة ازدحام تعود فيها الشاحنات التي دخلت محملة بالبضائع إلى الأراضي السورية فارغة إضافة لعودة المسؤولين الأتراك والموظفين الذين يمثلون كل مؤسسات الدولة وحتى الرياضة إلى نقطة الحدود ومنها إلى مدنهم، بعد يوم عمل".
وقال مسؤول تركي "كل مؤسسة تخطر ببالك (في تركيا) هي هناك" ويقدر أن حوالي 300 عامل تركي و 200 شاحنة تقطع النقطة الحدودية وهي واحدة من ثماني نقاط على الحدود التي تمتد بطول 900 كيلومتر
وهو مشهد يعكس الدور المتزايد لتركيا في تشكيل مستقبل سوريا بعد العمليات العسكرية التي قامت بها لمنع المسلحين الأكراد الذين تعتبرهم إرهابيين. ومنذ أن هدرت الدبابات التركية أول مرة قبل ستة أعوام، أصبحت العملية العسكرية مهمة بالنسبة لها ولامست كل مظاهر الحياة المدنية والأمنية في الجيوب الثلاثة التي يعيش فيها مليونا سوري. وهي مهمة تعبر عن أكبر تأثير لتركيا في دولة عربية منذ انهيار الخلافة العثمانية عام 1918 وربما توسعت حالة نفذ الرئيس رجب طيب أردوغان وعيده بحملة عسكرية جديدة. ولو نفذ تهديداته فستؤدي إلى زيادة التمحيص في استراتيجية تركيا طويلة الأمد ودور القوى الخارجية في النزاع السوري الذي مضى عليه عقد من الزمان.
وفي التقرير الذي أعده أندرو إنغلاند ولورا بيتل من الحدود التركية -السورية اعتبر الكاتبان انه قد بات تشرذم سوريا خلال العامين الماضيين أمرا واقعا. واستطاع بشار الأسد وبدعم من روسيا وإيران استعادة الكثير من المناطق التي خسرها في بداية الحرب. وتم دفع ما تبقى من المعارضة المسلحة شمالا حيث تعتمد على القوة العسكرية والدعم المالي التركي. وفي شمال- شرق سوريا تدعم الولايات المتحدة الأكراد بحوالي 800 من جنودها. وتحول النزاع في سوريا إلى نزاع مجمد، فقد فيه المجتمع الدولي الاهتمام بتسوية للأزمة الساكنة. وسيظل واقع سوريا كئيبا طالما رفض الأسد التنازل في تسوية سياسية ورفضت القوى الأجنبية مغادرة البلاد.
وقالت دارين خليفة، المحللة بشؤون سوريا في مجموعة الأزمات الدولية ببروكسل "لا أحد يريد الحديث بصراحة لأنه مثير للجدل السياسي والأمريكيون لا يريدون الشعور بأنهم يسهمون بهذا وتركيا لا تريد أن يتحدث أحد عنه...لكن الواقع هو أن ديناميات النزاع ورهاناته تحفز القوى الأجنبية على البقاء في سوريا. وطالما بقيت فسيظل الانسداد الحالي ويشبه حالة تقسيم فعلي للبلاد".
تركيا تعتبر وحدات حماية الشعب أو واي بي جي امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي يشن حربا في داخل تركيا. وصنفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المنظمة كإرهابية. واعترف المسؤولون الأمريكيون بعلاقتها مع وحدات حماية الشعب.
لكن واشنطن أغضبت أنقرة ووقفت إلى جانبهم حيث اعترفت بدورهم في قتال تنظيم الدولة. ويريد أردوغان إنشاء منطقة آمنة لترحيل اللاجئين السوريين وعددهم 3.7 مليون نسمة حيث بات وجودهم في البلاد مصدرا للتوتر. ولكن العمليات العسكرية وضعت الجنود الأتراك في محاور حرب أجنبية وكلفت أنقرة مليارات الدولارات ووترت علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية وأثارت اتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان وتهدد باندلاع مواجهة عسكرية مع الأسد وداعميه من الخارج. لكن أردوغان أخبر نواب البرلمان في حزيران/يونيو أنه يخطط "لمرحلة جديدة" من هدفه بناء "محور آمن" بعمق 30 كيلو مترا من الحدود وبهدف إخراج المقاتلين الأكراد من مدينة منبج، غرب الفرات وبلدة أخرى وهي تل رفعت الواقعة بعيدا في الغرب. وقال "سنطهر تل رفعت ومنبج من الإرهابيين وسنعمل نفس الشيء مع بقية المناطق، خطوة، خطوة".
ويقول الدبلوماسيون إنه لا توجد أدلة كثيرة تقترح أن العملية العسكرية قريبة، في وقت حذرت فيه روسيا وإيران والولايات المتحدة من توغل عميق في الأراضي السورية بشكل سيؤدي إلى نزاع عسكري أوسع. إلا أن القادة الأتراك في داخل سوريا أبلغوا سلطات المعارضة المحلية بضرورة تحضير المقاتلين من الجيش الوطني السوري الذي تقاتل تحت رايته عدد من الجماعات المسلحة، وذلك حسب مدير المكتب السياسي للجيش الوطني السوري محمود الليطو. وأضاف أن تركيا نشرت قوات وأسلحة على طول الحدود "حتى الشهر الماضي كانت تركيا جادة بشأن العملية". وأكد أن الجيش الوطني السوري لا يتبع أجندة أنقرة وسيواصل مقاومة الأسد بدعم أو بدون دعم، معترفا أن الجيوب التي تسيطر عليها المعارضة تعتمد على رعاتها الأتراك "تحولت تركيا للفرصة الوحيدة لنا بعدما تخلى المجتمع الدولي عنا".
ويرى محللون أن هناك عدة عوامل وراء إعلان أردوغان عن حملة جديدة، منها شعور أن روسيا والغرب منشغلون بحرب أوكرانيا ومحاولة تعبئة قاعدته في الانتخابات العام المقبل والوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر فيه تركيا. لكن أنقرة كما تقول خليفة ترى بوحدات حماية الشعب تهديدا لا يتعامل مع أحد بجدية. و "سواء وافقنا أم اختلفنا على دولة منفصلة إلا أن الجميع في أنقرة، سواء كان أردوغان أم قيادة أخرى ستفكر بهذا وتتحرك بناء عليه".
وتشير الصحيفة إلى صعود قوات حماية الشعب أثناء المعركة على كوباني في عام 2014، حيث أصبح المقاتلون الأكراد خيار أمريكا في القتال ضد تنظيم الدولة من خلال مظلة قوات سوريا الديمقراطية. وراقبت أنقرة بسخط الكيفية التي أمن فيها الأكراد مناطق وأسلحة ودعما دوليا. وتقدر خليفة أن قوات سوريا الديمقراطية التي تتهم تركيا بالاحتلال تصل إلى 100.000 مقاتل ولديها إدارة مدنية بنفس الحجم. وأمر أردوغان قواته أولا في عام 2016 باتجاه جرابلوس، لمواجهة تنظيم الدولة ولإحباط التحرك الكردي. وجاءت العملية بعد أسابيع من نجاة أردوغان من محاولة انقلابية فاشلة.
وشنت تركيا حملة أخرى في عامي 2018 و2019 قاتلت في الجماعات السورية إلى جانب القوات التركية. وشنت تركيا حملة رابعة عام 2020 لعكس المكاسب التي حققها نظام الأسد في إدلب التي تسيطر عليها المعارضة ويعيش فيها 4 مليون نسمة. وتأثير تركيا على إدلب أقل، حيث تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، ولكنها تظل في النهاية الحامي الأخير للمحافظة. وانتهت المواجهات بوقف إطلاق نار توصلت إليه تركيا وروسيا ولا تزال خطوط القتال متجمدة. وتتحمل تركيا اليوم مسؤولية 9 مليون سوري إلى جانب اللاجئين في داخل أراضيها، أي نصف سكان سوريا قبل الحرب.
وهناك عامل في الحسابات التركية هو تراجع شعبية أردوغان لتحقيق انتصار في الانتخابات المقبلة. وفي الوقت الذي تشترك فيه المعارضة مع مخاوفه من الأكراد إلا أنها تنتقد دعمه للمعارضة السورية، وتعهدت جميعها لو فازت بإعادة العلاقات مع دمشق، كمقدمة لترحيل السوريين...
المصدر: فايننشال تايمز