تعهد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عندما تولى منصبه عام 2017، بإعادة ضبط العلاقات مع الدول الافريقية. لم يف ماكرون بوعد إنهاء "فرانس أفريك" أو ما يعرف بنظام النفوذ السياسي والاقتصادي للباريس بعد الاستعمار الذي دام لقرون في القارة، وهذا كان نموذجاً آخر عن كيفية تعاطي الادارات الغربية مع الدول الافريقية، والتي أدت أخيراً، إلى سقوط أحجار الدومينو في القارة.
كانت باريس تستشعر الخطر في تلك الدول منذ سنوات. وعلى ضوء الانتقادات التي عصفت بأروقة القرار الفرنسية بضرورة اعادة تقييم أدائها، علّق السفير الفرنسي السابق وزميل أقدم مقيم في معهد مونتين للأبحاث، ميشيل دوكلوس، بالقول "لن نهرب من إعادة تقييم سياستنا... المشكلة ليست في تقييم ما إذا كانت استراتيجيتنا في أفريقيا فاشلة أم لا - لقد فعلنا ما في وسعنا، وقمنا بواجبنا - ولكن الآن نحن بحاجة إلى البدء من الصفر، والتفكير".
مع وصول قطار الانقلابات العسكرية في القارة إلى الغابون، بعد أقل من شهر على انقلاب النيجر، تأكد فشل السياسات الغربية وفي القلب منها سياسات فرنسا صاحبة النفوذ القوي في تلك الدول.
منذ بدء الاحتجاجات عام 2011 بما سمي بالربيع العربي، لم تشهد العواصم الغربية أحداثاً مفاجئة وخارجة عن سيطرتها كما يحدث الآن في الساحل الغربي لافريقيا، وما أطلق عليه ماكرون "وباء الانقلابات العسكرية" في الدول التي كانت لسنوات في عهدة ضباط عسكريين موكل إليهم الحفاظ على استقرارها.
تكمن أهمية ما جرى ان الانقلابات لم تعد محصورة في منطة الساحل، بل خرجت عن ذلك النطاق ووصلت إلى الغابون. المعركة التي خسرتها فرنسا في حربها ضد تنظيم داعش الارهابي في تلك المنطقة، أثارت سخط السكان المحليين، وساهمت بتهيئة الظروف للاطاحة العسكرية بالأنظمة في دول مثل مالي والنيجر، وأعطت نجاحات لمجموعة فاغنر الروسية. ربما أدى عجز الكتل الإقليمية الغربية أو الأفريقية عن عكس هذه المصادرة للسلطة إلى تغذية الرغبة في الإطاحة ببونغو - الذي حكمت عائلته الغابون لمدة 55 عاما وكانت لفترة طويلة شريكا رئيسيا لمصالح باريس في إفريقيا-.
لناحية النيجر، تخشى فرنسا ان تضطر إلى التخلي عن قاعدتها العسكرية كما اضطرت إلى القيام به في مالي وبوركينا فاسو. وستحتاج الولايات المتحدة أيضا إلى أن تقرر ما إذا كان ينبغي لها أن تعمل مع حكومة عسكرية أو تترك البلاد لمصيرها.
سيتطلب الأمر لمسة دبلوماسية هي حتى اليوم بعيدة. من جهة ترفض واشنطن تسمية الانقلاب انقلابا ومن ناحية أخرى تتصاعد التهديدات بالتدخل العسكري. وأدى التركيز على الحشد العسكري في منطقة الساحل والميل نحو "العمل كالمعتاد" مع الزعماء المستبدين إلى فقدان فرنسا نفوذها ومصداقيتها في حين أن هناك صراعا أكبر على السلطة بين الغرب والصين وروسيا يحدث في قارة تتوفر فيها الموارد الطبيعية بكثرة.
لفترة طويلة جداً، تجاهلت الدول الاوروبية والادارات الأميركية المتعاقبة إمكانات الدول الافريقية وأهميتها الاستراتيجية لصالح نظرة مستهلكة باعتبار القارة مشكلة إنسانية بحتة. وقد استيقظ كل منهما مؤخرا على حقيقة مفادها أنهما بفشلهما في بقراءة الواقع المتغير في القارة، تنازلا عن الأرض للصين وروسيا تدريجياً، وسمحا لهما بالوصول إلى مستوى كان من الصعب عليهم دخوله لو ان القبضة الغربية على تلك الدول كانت على ما كانت عليه قبل عقدين مثلاً.
تقول مجلة Evening Standard في تقرير بعنوان "الانقلاب في الغابون يهمنا: يظهر ان الغرب قد فشل" ان الغرب خسر على الأرض. وتبين أفريقيا إلى أين يتجه العالم. الأدوات القديمة للنفوذ الغربي أصبحت أقل فعالية، من السفراء إلى القواعد. لقد ذهب الشعور القديم بأن الغرب يتمتع بالمصداقية والطموح. لم يعد الغرب هو اللعبة الوحيدة في المدينة. لقد ضخ الاستثمار الصيني العملاق في مبادرة الحزام والطريق مبالغ ضخمة وحرث أميالا من البنية التحتية الجديدة في جميع أنحاء القارة. والآن تنافس هياكل تمويل التنمية في بنوك التنمية القديمة التي يقودها الغرب. لا يقتصر الأمر على روسيا في قوتها ولكن أيضا القوى الصاعدة الأخرى مثل ممالك الخليج. لم يعد كافيا أن تكون مانحا رئيسيا للمعونة. عليك أن تبدو مثل المستقبل.
الكاتب: غرفة التحرير