ليس غريبا ان تقف دول الخليج مع "إسرائيل"، فهذه الدول حسمت أمريكا موقفها منها منذ تأسيسها، وتتعامل معها كجزء من خارطتها، وهذا خلل في المنظومة العربية وتفكيرها، حيث أن واحدة من آليات أمريكا الفاعلة أنها تصنع دولاً ميؤوساً منها، وتشطب أي تفكير يحاول الدنو منها.
دول الخليج منذ ان تأسست هي مجرد محميات بريطانية ثم أمريكية، ولا نعرف ستصبح "زوجة" من في المستقبل، فأُمراؤها يحسنون تطبيق المثل القائل "من تزوج أمي أصبح عمي".
أدارت الولايات المتحدة وقبلها بريطانيا ملف الخليج وفق مثلث حكم وراثي- فساد قيمي- توكيل امر القرارات المهمة الى المستشارين الغربيين. وقد أفادت دول الخليج الولايات المتحدة كثيراً في أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، واستخدمت المال والإعلام والتعبئة ضد كل العقائد والأفكار التي تدعو للحرية والديمقراطية والسيادة والاستقلال، والتنكيل بكل من ينتمي لها من شعوبها، سواء كان داخل البلاد او خارجه، فيما تقف الى جانبها دول الغرب بالتغطية على جميع جرائمها، للحفاظ على السلطات الحاكمة.
الدين والنظام السياسي والاجتماعي والتعليمي في خدمة السلطة
وفقا للمخطط الغربي فإنّ هذه الدول لا يحق لها ان تفكر، أكثر من ان تأكل وتشرب وتنام وتلهو، فأصبح الكسل قرين شعوبها، لذا حين تملي عليها أمريكا مشروعاً لا تقوى على الاعتراض حتى وان خالف مزاجها او حتى عقيدتها الدينية او القيمية! فهي دول بلا اسنان، فلا جيوش لديها ولا تسليح ولا تدريب، وإدارة الملف الأمني بيد الغرباء!
حين هاجمت القوات العراقية دولة الكويت عام 1990، خرجت الحكومة الكويتية، وباتوا أمراؤها ضيوفاً عند المملكة العربية السعودية لتأتي الجيوش الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وتقاتل نيابة عن حكومة وشعب الكويت، وتخرج القوات العراقية، وتُعيد الأمراء الى سلطانهم.
دول الخليج قليلة السكان وغالبا ما يكون الغرباء أكثر من السكان الأصليين فمثلاً عدد السكان الاصليين الاماراتيين 850 ألف نسمة بينما عدد الأجانب 11مليون، وهكذا على بقية الدول.
جميع دول الخليج تحت الحماية الغربية بشكل مباشر وغير مباشر، لذا حين ساقتها امريكا الى التطبيع لم تملك ان تعترض وان امراءها ليس لهم سوى ان يوافقوا، وان اعترضوا فإما ان يُقتلوا بدعوى مشاكل عائلية او ان يقالوا ليحل البديل الجاهز من ذات الأسرة الحاكمة.
هذه المقدمة سقناها، ونحن نعيش تفاصيل ووقائع معركة طوفان الاقصى حيث نرى دول الخليج لم تكتف
بالتخاذل والتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، وإدانة قوى المقاومة واتهامها بالإرهاب، بل تديم له الحياة بعد ان اغلقت عليه المقاومة منافذ التجارة مع العالم عبر خنق مضيق باب المندب من قبل أنصار الله، حيث باشرت دول الخليج بمد يد العون وفتح طريق بري لإسرائيل يمتد من الامارات الى البحرين والسعودية ثم الاردن الى اسرائيل.
مصر ايضا سارعت للمشاركة في دعم الوضع الاسرائيلي عبر اتفاق شركة مصرية للخدمات اللوجستية (WECS) وبالتعاون مع شركة (PUrans) بعد تفريغها في موانئ دبي والبحرين وميناءي بورسعيد والعين السخنة المصريين.
الرئيس السيسي كلما اشتد غضب العالم من شدة غلقه لمعبر رفح بوجه ارسال المساعدات الى اهالي غزة ردد "الاسرائيليون ميرضوش"! لكن السيسي يرضى ان الشركات المصرية تساهم بنقل الاغذية الطازجة الى الصهاينة! الآن علينا ان نسلّم ان دول الخليج هذا واقع حالها، ولا يحق لنا ان نطالب أمراءها بأكثر من ذلك، كما لا يحق لذوي العقل والبصيرة ان ينتظروا من شعوب هذه الممالك فعلا يتجاوز قرارات قادتهم، وكيف نطالبهم وقد شهدنا فيلماً مصوراً كاملاً للكيفية التي تمت فيها عملية تقطيع جسد المعارض السعودي جمال الخاشقچي في القنصلية السعودية في اسطنبول!
وكيف أن مملكة البحرين سحبت الجنسية من ابناء شعب البحرين لمجرد مطالبتهم بمجلس شعب منتخب!! المشكلة ان اموال الخليج لم تتوقف في حدود قهر شعوب هذه الدول، بل تحولت الى مخططات لتخلف الامة برمتها، ووقفة عند اعتراف وزير خارجية قطر الاسبق حمد بن جاسم وكيف تم تشكيل غرفة عمليات تتكون من السعودية وقطر والاردن وتركيا وامريكا بقيادة بندر بن سلطان، ورصد مبلغ 2000 مليار دولار لإسقاط حكومة الرئيس السوري بشار الاسد عبر صناعة الارهاب ودعمه.
ان مبلغ (2000) مليار دولار لا يمكن لدول عدا دول الخليج تهيئته لهدف سياسي وليس اقتصاديا. واذا كانت السعودية على مدى سبعة عقود تتولى تثبيط عزم الأمة وخذلانها، ونصرة الحكومات التي تسير على الخط الاميركي، فقد تولت الامارات هذا الدور بعد عام 2000 ليصل معدل تدخلها بشؤون الدول العربية الى (18) دولة والسؤال؛ ما مصلحة الامارات بهذا التدخل وهي البلد الصغير الذي لا يتعدى عدد نفوسه ال (850) الف نسمة فيما عدد الاجانب (11) مليون؟ لقد تحولت الامارات الى اسرائيل ثانية بالمنطقة!
هناك مشكلة يواجهها المنهج اليساري في الولوج الى دول الخليج بانها دول غنية، وبكل الاحوال ليس هنالك فقر مدقع ليصنع الصراع ويؤججه، ثم مع تعاقب الزمن بات المواطن الخليجي يرى بملوكه وأمرائه آلهة مقدسة حيث أتذكر مرة ان أحد مواطني الخليج قال في برنامج إذاعي: اذا مات رجال آل سعود جميعهم فسوف نؤمر نساءهم علينا"، وهذا يعود للإعلام ايضا حيث استطاعت دول الخليج ان تستقدم المئات من الاعلاميين المحترفين ليهتفوا لها ليل نهار، وان يعظموا من شأن حكامها.
الدول الملكية الاخرى مثل الاردن والمغرب العربي ايضا تم شراء قياداتهم واستحكام القبضة على الشعب، رغم ان الشعب المغربي فيه من المفكرين والكتاب المبدعين الكثير، ولكن اغلبهم يفر خارج البلاد، ودول اوروبا فيها مساحة لاستيعاب مواهبهم بعيدا عن بلدهم.
الاردن تعيش على المساعدات الاميركية والخليجية وبنظام ملكي وراثي واستطاعت اجهزة الامن ان تروض الواقع وان تنشئ طبقة من التجار والمنتفعين واحزاب السلطة ورؤساء العشائر لصالح النظام، لدرجة ان التجار الاردنيين ما زالوا يبيعون بضاعتهم من المنتجات الزراعية والفواكه الى اسرائيل، واكتفى وزير الزراعة الاردني بالقول "ليس لدينا قانون يمنعهم لكن هم عليهم ان يحتشوا"!
ولما كانت الدول العربية الاخرى اغرقتها فيضانات الربيع العربي فاصبح عدد كبير من شعوب هذه الدول في منأى عن اي قرار عربي فاعل، وليس غريبا ان دولة جنوب افريقيا تقدم طلبا الى محكمة العدل الدولية لمحاكمة اسرائيل في قضية الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني فيما العرب عموما غير قادرين على ذلك، والأنكى انهم ينادون بعدم توسيع الحرب ليتركوا شعب غزة يموت وهم عنه غافلون!
قبل ان تنطلق معركة طوفان الاقصى كان الاعلام الخارجي مصحوبا بصمت خليجي يركز على معادلة جديدة "مالنا ومال فلسطين" و" لنقم علاقة مع امريكا واسرائيل بعيدا عن فلسطين"، ورسالة رئيس تحرير جريدة السياسية الكويتية احمد الجار الله الى الملك محمد بن سلمان في الثلاثين من ايلول لعام 2023 واضحة حيث افتتحها بالقول "إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة لم تعد ملفاً عربياً"، حاثاً الملك السعودي للمضي بالتطبيع مع الصهاينة. اذن الأمة بحاجة الى إعادة انتاج وهذا يقع على عاتق النخب المثقف..
جدير بالذكر ان معركة طوفان الأقصى أعادت القضية الفلسطينية بقوة الى الواجهة العالمية، ولكن اكثر ما نخشاه ان تُفرغ شحنات هذه المعركة الحاسمة بعيداً عن الساحة العربية ان لم نقل تخنقها الساحة العربية الملأى بالتناقضات والفوضى!
ما هو مطلوب ان تتبنى الفئة المثقفة خطابا غير الخطاب التقليدي الذي يلعن خذلان الامة، ويذكر بالانتكاسات ويشتم القادة والملوك العرب فقد أدمنوا ذلك، وبالمقابل امتلكوا ماكنة إعلامية ضخمة، مستفيدين من جميع الطاقات العربية والاجنبية التي مسّها الضر فوجدت بهذه الماكنة سبيلا لتوفير لقمة العيش.