الجمعة 08 آب , 2025 02:15

لماذا يصرّ نتنياهو على اجتياح بري لمدينة غزة رغم اعترافه بفشل العمليات السابقة؟

نتنياهو والقيادة العسكرية

حين يعترف رأس الهرم السياسي والعسكري في "إسرائيل" بأن العمليات السابقة في غزة فشلت، ويتبع ذلك بقرار اجتياح بري جديد لمدينة دمّرها القصف حتى الرماد، فإن السؤال لم يعد عسكريًا أو حتى سياسيًا فقط، بل وجوديًا: لماذا تستمر "إسرائيل" في حرب تعترف قيادتها بفشلها؟ ولماذا يتجه نتنياهو نحو مزيد من الدم والدمار في مدينة غزة، بينما تنهار كل ركائز النصر المعلن؟ هذا المقال يحاول تفكيك العقلية "الإسرائيلية" الحاكمة الآن، التي تجمع بين الاستعصاء السياسي، والإنكار الأخلاقي، والهروب من المحاسبة.

أولًا: الاعتراف بالفشل… ما بعد نقطة اللاعودة

لم يكن اعتراف بنيامين نتنياهو بفشل العمليات العسكرية السابقة مجرد تصريح فقط. بل جاء كتأكيد ضمني على أن كل ما تم منذ 7 أكتوبر حتى اليوم — أكثر من 670 يومًا من الحرب — لم يحقق أي هدف استراتيجي، لا في هزيمة حماس، ولا في استعادة الأسرى، ولا في "ردع" المقاومة، ولا حتى في تلميع صورته أمام الجمهور "الإسرائيلي". هذا الاعتراف، حين يصدر من قائد يقود جيشًا منغمسًا في مجازر يومية، يتحوّل إلى شهادة سياسية على الإفلاس.

وهو ما عبّر عنه قادة المعارضة والجيش علنًا. من يائير لبيد الذي وصف خطة احتلال غزة بـ"الكارثة"، إلى عاموس يدلين، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، الذي حذّر من أن "إسرائيل" على أعتاب كارثة إستراتيجية وسياسية لا تقل خطرًا عن 7 أكتوبر.

السؤال الجوهري: إذا كانت كل هذه العمليات فاشلة، وإذا كان خصمك أعاد تنظيم صفوفه ويقاتلك في المدينة ذاتها التي دمرتها، فما هو المنطق في تكرار نفس الخطأ على أوسع نطاق؟

ثانيًا: الهروب إلى الأمام… من الفشل إلى الكارثة

الجواب لا يكمن في المجال العسكري، بل في السياسي والشخصي. نتنياهو لا يبحث عن نصر، بل عن النجاة. هو الآن في سباق مع ثلاث نهايات: نهاية حكمه، نهاية حريته، وربما نهاية "الدولة" التي يدّعي تمثيلها.

محاصَرًا بمذكرات توقيف دولية، ومعارضات داخلية قوية، وتآكل في الدعم الدولي، يحاول رئيس الحكومة "الإسرائيلية" اختلاق "حدث حاسم" يعيد ضبط الساعة السياسية لصالحه. ولأن مفاوضات التهدئة انهارت، والدعم الدولي يتآكل، تبقى أمامه ورقة واحدة: الحرب. ولكنها ليست حربًا لكسب معركة، بل لإعادة تشكيل البيئة السياسية والداخلية، حتى لو أدّى ذلك إلى كارثة كاملة.

ثالثًا: المقاومة تفرض شروط الحرب… وسقف ما بعد الحرب

في المقابل، تظهر تصريحات حماس والفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب القسام، أن المقاومة لم تفقد المبادرة رغم النزيف الهائل. التهديد الواضح بأن الأسرى لن يعودوا إلا بالمفاوضات أو بثمن باهظ، يشير إلى أن خطة نتنياهو محكومة بالفشل، لأن القدرة على فرض الشروط باتت موزعة، لا مركزية.

إن قدرة المقاومة على امتصاص الصدمة، ثم إعادة التموضع في قلب قطاع محاصر ومقموع جوًا وبحرًا وبرًا، لا تعني فقط أنها لم تُهزم، بل أنها نجحت في فرض منطقها: النصر لا يكون في السيطرة الأرضية، بل في إفشال الأهداف السياسية والعسكرية للعدو. وهذه معادلة تفوق بكثير حجم غزة الجغرافي أو العسكري.

رابعًا: التحول في الموقف الأميركي… وصبر ترامب النافد

من جهة أخرى، يشير الموقف الأميركي، كما جاء على لسان ماركو روبيو، إلى تحول بنيوي داخل المؤسسة السياسية الأميركية. فبينما يعيد روبيو ترداد المقولات التقليدية عن خطر حماس وضرورة القضاء عليها، إلا أن جوهر خطابه ينطوي على اعتراف ضمني بأن لا حل عسكريًا ممكنًا، ولا عملية سياسية واقعية في ظل الوضع الراهن.

الأخطر من ذلك، ما نقله عاموس يدلين عن بداية نفاد صبر دونالد ترامب. ترامب الذي بنى علاقته مع "إسرائيل" على "صفقات" لا على شعارات، بدأ يرى أن نتنياهو بات عائقًا لا ورقة تفاوض. الدعم يتآكل، وحتى البيت الأبيض لم يعد يرى في الحرب "الإسرائيلية" مشروعًا استثماريًا رابحًا.

إن البيئة الدولية التي كانت حاضنة للمجزرة باتت تنقلب عليها تدريجيًا، لا حبًا بالفلسطينيين، بل لأن المشروع الصهيوني نفسه بات عاجزًا عن تحقيق أي مكاسب لداعميه.

خامسًا: الخيارات أمام نتنياهو… ولا خيار واقعي

بين خطة اجتياح غزة التي أقرتها "الحكومة الإسرائيلية"، واعترافات قادة الجيش والاستخبارات بفشل العمليات، تبرز فجوة قاتلة بين القرار السياسي والواقع الميداني. إذ كيف يمكن اجتياح مدينة دون غطاء دولي؟ كيف يمكن تنفيذ عملية برية ضد مقاومة تقاتل بشراسة في بيئة مدمّرة ومعقدة، ووسط مليوني إنسان نصفهم بلا مأوى؟

يبدو أن "إسرائيل" تسير نحو تكرار سيناريو "بيروت 1982" ولكن من دون القدرة على فرض وقائع استراتيجية جديدة. فكما غاصت حينها في الوحل اللبناني، تسير الآن نحو مستنقع جديد، هذه المرّة داخل المدينة التي كانت رمزًا للدمار والمجازر، لتجد أن تحت الركام مقاومة لا تزال تقاتل.

سادسًا: احتمالات المرحلة المقبلة… من التصعيد إلى الانهيار؟

تصعيد قصير الأمد وفشل ميداني:

من المرجح أن تبدأ "إسرائيل" عملية محدودة في مدينة غزة، يتخللها قصف مركز وإجلاء جماعي للمدنيين، بهدف فرض "حصار ناري" على كتائب القسام. ولكن في ظل تعقيد البيئة الحضرية، قد تواجه "إسرائيل" كمائن قاتلة وتفجيرات أنفاق، وتعيد مشاهد خان يونس أو الشجاعية وغيرها من المناطق.

صفقة تبادل على وقع الهزيمة:

بعد التصعيد، ومع الفشل في إعادة الأسرى، قد يضطر نتنياهو للقبول بصفقة تبادل كبرى، تشمل وقف إطلاق نار وربط إعادة الإعمار بشروط تتعلق بنزع سلاح المقاومة. ولكن هذه الخطة تتطلب وسيطًا دوليًا قويًا، ودعمًا أميركيًا لم يعد مضمونًا.

سقوط سياسي داخلي لنتنياهو:

في حال فشل الاجتياح وتزايد الضغط الدولي، قد يشهد الداخل "الإسرائيلي" انتفاضة سياسية ضد نتنياهو، قد تقوده إما إلى التنحي، أو إلى انتخابات مبكرة تأتي بنتائج تطيح به نهائيًا.

تحول دولي في الموقف من القضية الفلسطينية:

مع ازدياد الاعترافات بالدولة الفلسطينية، وتفاقم عزلة "إسرائيل"، قد نشهد تحولًا جذريًا في شكل التعاطي الدولي مع الصراع، بما في ذلك تصاعد حركات المقاطعة، وتقييد الدعم العسكري.

في النهاية؛ فإن ما يجري في غزة ليس فقط فشلًا عسكريًا، بل انهيارًا لمنظومة كاملة من الأكاذيب التي بنتها "إسرائيل" لعقود. لم تعد قادرة على إقناع نفسها أنها دولة منتصرة، ولا جمهورها بأنها محمية، ولا العالم بأنها ضحية. ومع إصرار نتنياهو على مواصلة الكارثة، يصبح الخطر الأكبر ليس فقط على غزة، بل على النظام السياسي "الإسرائيلي" نفسه، الذي قد ينهار تحت وطأة الأكاذيب التي أطلقها بنفسه.

بعبارة أخرى: نتنياهو لا يقود "إسرائيل" نحو نصر جديد، بل نحو نكبة ثانية… لكن هذه المرة، على الطرف الآخر من الجدار.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور