استند خطاب التعبئة على تقديم صورة مضخّمة جداً لحركة حماس، كعدوٍ لا يقهر وصاحب قدرات تهدّد الدولة وتعمل على اقتلاع الكيان وإنهائه، علماً أن الفارق في القدرات الحربية والتقنية والعسكرية لا يقارن بين الجبهتين. هدَفَ قادة الكيان هنا، إلى تكبير صورة الاحتلال لتخويف الجنود، وذلك لضمان الإبقاء عليهم بحالة الاستعداد والتربّص للمواجهة.
حاول القادة الأربع (الارئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وزير الحرب يوؤاف غنت، رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي والناطق باسم الجيش دانييل هاغاري) دائما أن يعطوا معنويات للعسكريين من خلال التذكير بالإنجازات التي قاموا بها في الميدان، مثل استهدافاتهم للمقاومة واغتيال مئات المقاومين وتهديم كل البنى الحياتية، لكن إنجازات الكيان هي في حقيقتها أفعال توحّشية وإجرامية وتدميرية.
لجأ هؤلاء في بعض الأحيان إلى الكذب والتضليل، خصوصاً عند إعلانهم عن الحرص على تجنيب المدنيين للمعارك، و"أخلاقية" الجيش الإسرائيلي المزعومة، وقتل نصف قادة حزب الله!
أظهرت النتائج أن نتنياهو هو الأكثر نشاطاً وتعبئةً بالنسبة لحالات الاستنهاض التي يقوم بها، على عكس وزير حربه الأكثر هدوءً، وإن تساوى الاثنان في المحتوى التحشيدي. كذلك الأمر بالنسبة لقائد الأركان الذي يفرض عليه منصبه خلق الحوافز والدوافع لدى جيشه، فيما جاء هاغاري في المرتبة الأخيرة من حيث التعبئة لأن خطابه اقتصر على عرض المنجزات الميدانية، ثم الاعتراف بعدم القدرة على إنهاء حماس، وهو اعتراف الذي مثّل انقلاباً على مفردات التعبئة وخطاب الاستنهاض.
نتائج وخلاصات
في الشهر التاسع للحرب الإسرائيلية التي أعلنها الكيان المؤقت على قطاع غزة، بعد معركة طوفان الأقصى التي بدأت بتاريخ 7 أكتوبر 2023، يمكن رصد الخطاب التعبوي/التحشيدي الذي وسم خطاب القادة العسكريين، وإيجازه بالتالي:
- لم يتحقق أيّ هدف من أهداف الحرب، على الرغم من كثرة التصريحات والخطابات التي حاولت أن تؤسّس لإنجاز ما، أو تروّج لتحقيق الأهداف. ما حقّقته "إسرائيل" هو فقط، استمرار الحرب والإصرار على عدم إيقافها، وتحدّي العالم كله، مع فائض التوحّش والعنف الدموي والإبادة التدميرية التي فاقت أفلام الرعب والخيال.
- لا يزال الجندي الإسرائيلي مستعدّاً للرضوخ لأوامر قادته. فالاستجابة موجودة وإن شابَها بعض التململ أو إبداء الانزعاج (لدى البعض).
- لم تؤثر كل خطابات التعبئة ومفردات التحشيد بالتأثير على قرارا الحريديم، بعدم الانضمام للجيش أو للقتال. إن كل مفردات التعبئة لا تعنيهم أبداً. سيبقى هذا الأمر مثار خلاف كبير بين الشرائح الاجتماعية داخل الكيان المؤقت، طالما اعتبر العلمانيون أنهم وحدهم من يدافع عن الدولة، بينما يتقاعس الآخرون ولا يعانون من أثار الحرب المباشرة.
- أفرزت التعبئة التحريضية مزيداً من الكراهية بالأقوال والأفعال (لأول مرة منذ سنوات يتفاخر الجنود بأفعال إجرامية يأخذون لها صوراً تذكارية وينشرونها أيضاً بلا أي رادع!).
- إن الأفعال التوحشّية التي قام بها جنود الاحتلال خلال حرب طوفان الأقصى، من حيث الكمّ والنوع، دلّت على منحى أكثر دموية وتوحشّا لدى الجنود، يعني هذا أن خطاب التجييش أتى بنتائج إيجابية بالنسبة للقادة الإسرائيليين.
- نتنياهو وغالانت كانا أكثر صلابة من هاليفي وهاغاري. إذ كان كلامهما غالباً موزوناً ومحسوباً. لم تتغيّر وتيرة خطاباتهما أو النقاط التي ركزّا عليها منذ البداية، فقد أصرّ منذ اليوم الأول على استمرار الحرب وإطالة أمدها الزمني، وحافَظا على المستوى نفسه من التهديد والتحدّي. في المقابل تهاوى رئيس الأركان هاليفي لأنه اعتبر نفسه مسؤولاً عمّا حصل، ليكون انقلاب الخطاب واضحاً وصريحاً مع الناطق باسم الجيش دانييل هاغاري الذي انقلب على نفسه وعلى كلامه وعلى كل وعوده السابقة.
- لم تحقّق خطابات رئيس الوزراء ووزير الحرب وقائد الأركان أي تخفيف من معاناة الضباط والجنود في الجيش المنهك منذ تسعة أشهر.
- لم يستطع خطاب التجييش والتحريض أن يمنع إلحاق الخسائر المادية والمعنوية بجيش الاحتلال ولم يسهم في التخفيف من تراكم القتلى والجرحى والمرضى النفسيين داخل الكيان المؤقت.
- لم تجد هذه الخطابات حلولاً لضرورة استدعاء 300 ألف من الاحتياط، وحاجة الجيش لاستدعاء نحو 50 ألفًا آخرين.
- قامت هذه الخطابات أحياناً على تقديرات استراتيجية خاطئة، تسببت في أخطاء في ميدان المعركة، أدت إلى تنفيذ حماس ضربات مؤلمة للجيش الإسرائيلي.
- لم تمنع هذه الخطابات الانشقاقات والاستقالات داخل القيادات الإسرائيلية. (رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق تامير هايمان قال إن إسرائيل قريبة من عزلة سياسيّة، وشرعيتها انتهت وإنجازات الحرب تآكلت).
- بعد كل الوعيد والتهديد الذي قدّمه زعماء الحرب بشأن موضوع حماس والقضاء عليها، والانتهاء منها، صرّح عضو مجلس الحرب السابق آيزنكوت إن "حماس" فكرة نقاتلها لسنوات عديدة قادمة (الفكرة نفسها التي أعلنها دانييل هاغاري المتحدث باسم الجيش) وأنه لا يمكن إعطاء وعد بتحقيق نصرٍ قريبٍ على حماس ثم لوم الجيش على عدم إنجاز ذلك.
- بعد تسعة أشهر: لازالت الأنفاق تعمل، والسنوار حراً، وإسرائيل لا تملك أي فكرة عن "اليوم التالي" للحرب، وجبهة الشمال مع حزب الله تتصاعد وتتطوّر تقنياً ولوجستياً.