الإثنين 14 تموز , 2025 03:42

من بيت حانون إلى تل أبيب: حين تُفجّر غزة المؤسسة "العسكرية الإسرائيلية" من الداخل

كمين بيت حانون وجنود إسرائيليون ونتنياهو

من هندسة الاحتلال إلى هندسة الهزيمة

لا تنشأ الحروب من فراغ، كما أنها لا تُدار في الهواء الطلق فحسب. خلف كل جبهة نار، هناك جبهة فكر، وخلف كل دبابة متقدمة، هناك سردية تبرر التوغل. لكن في الحالة "الإسرائيلية" داخل قطاع غزة، باتت هذه السردية تفتقر إلى أي منطق سياسي أو عسكري، فيما المشهد الميداني يُعاد رسمه بيد المقاومة، من بيت حانون شمالًا إلى عبسان جنوبًا.

الكمين الأخير الذي نُفذ في بيت حانون، وأدى إلى مقتل خمسة "جنود إسرائيليين" وإصابة 14 آخرين، ليس مجرد ضربة تكتيكية بل لحظة انهيار أخلاقي وعقائدي داخل مؤسسة الجيش، ومؤشر على اختلال البوصلة بين القرار السياسي والتقدير العسكري. ومع تكرار هذه الخسائر – التي بلغ عددها منذ مارس/آذار وحده 39 قتيلًا في صفوف الجيش الإسرائيلي، وفق "يديعوت أحرونوت" – يتزايد في "الداخل الإسرائيلي" سؤال جوهري: هل يتعلم جيشنا شيئًا؟ وهل نحن ذاهبون إلى نصر أم إلى عبث؟

كمين بيت حانون… عندما تنقلب الجغرافيا إلى فخٍّ استراتيجي

أحد أكثر المؤشرات فداحة في الحرب الدائرة اليوم، هو تحوّل ما تعتبره "إسرائيل" مناطق آمنة إلى ساحات استنزاف من العيار الثقيل. كمين بيت حانون الذي اعتُبر الأكثر تعقيدًا منذ بدء العدوان على غزة، لم يكن مجرّد ضربة بل كان درسًا مدروسًا في علم النفس العسكري، والخداع الميداني، وفن الكمائن المركبة.

وفق ما كشفت عنه التحقيقات "الإسرائيلية"، سقط الكمين عندما تحركت كتيبتان مشاة لتطهير المنطقة، وسارتا فوق طريق مفخخ بدقة. عند انفجار العبوات، تحرّكت وحدات الإنقاذ مباشرة إلى المكان، فتعرضت لإطلاق نار كثيف من مقاومين كانوا يترصدون من عدة محاور. هنا تظهر بصمات "حرب العصابات الذكية": عبوات – إطلاق نيران – اصطياد فرق الإنقاذ – ثم انسحاب صامت.

المراسل العسكري نير دفوري في القناة 12، أشار إلى أن الجيش لم يتخذ الإجراءات الميدانية الكافية قبل العملية، متسائلًا: "لماذا دخلت القوات مشيًا، ولماذا لم تُستخدم وسائل تكنولوجية متقدمة لتحييد التهديد؟".

الجواب على هذا السؤال، في الواقع، أكثر إيلامًا من الكمين نفسه: لقد اعتادت المؤسسة العسكرية على قتال عدو يُفترض أنه منهك أو مفكك. لكنها اليوم تواجه مقاومة تحفظ الجغرافيا، وتنتج تكتيكات جديدة من تحت الأنقاض، وتعرف أكثر مما تعرفه "إسرائيل" عن نفسها.

تصدّع المؤسسة "العسكرية الإسرائيلية"… من الداخل

إذا كانت غزة تفجر العبوات في الجبهات، فإن جنود الاحتياط يفجرون الأسئلة في المؤسّسة العسكرية. صحيفة هآرتس نقلت عن خمسة جنود احتياط رفضوا القتال في غزة، أن هذه الحرب تجاوزت "كل الحدود الأخلاقية والأمنية والقيمية"، في اعتراف صريح بأن الحرب لم تعد تحظى بالشرعية لا العسكرية ولا الأخلاقية.

أحدهم قال: "هدف الحرب لم يعد استعادة الأسرى أو الدفاع عن المستوطنين… بل بقاء الحكومة". هذا التصريح يُفكك عمليًا العلاقة المقدسة التي بنتها "إسرائيل" منذ نشأتها بين الجندي والدولة. إنها لحظة قطيعة مفاهيمية خطيرة: الجنود لم يعودوا يؤمنون بأن الدم الذي يُسفك له معنى.

وبينما تحاول القيادة السياسية بقيادة نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية- الاستفادة من الحرب لأغراض انتخابية، تتراكم الكلفة البشرية والنفسية داخل الجيش. 70% من الإصابات في الأسابيع الأخيرة وقعت بسبب عبوات ناسفة زرعتها المقاومة، حسب تقارير القناة 12. وهذا يعني شيئًا واحدًا: العدو يعرف أين تضربه، والجيش لا يعرف أين يسير.

عجز الاستراتيجية "الإسرائيلية"… و"العودة إلى بيت حانون"

المفارقة أن "إسرائيل" وبعد كل هذه الخسائر، تعود مجددًا إلى المناطق التي انسحبت منها. بيت حانون نموذج فاضح: دخل الجيش، انسحب، ثم عاد مجددًا. لكن لماذا؟

يقول المحلل العسكري ألون بن ديفيد من القناة 13 إن "الضرورة الأمنية" تفرض العودة إلى بيت حانون، لأن المقاومين يعودون إليها بمجرد انسحاب الجيش. هذا الاعتراف يكشف فشلًا استراتيجيًا ذريعًا: لا قدرة على الإمساك بالأرض، ولا قدرة على تفكيك البنية القتالية للمقاومة.

الخبير كوبي مروم ذهب إلى أبعد، حين شبّه الوضع بما واجهته "إسرائيل" في جنوب لبنان مع حزب الله، وقال: "علينا التفكير وفق منطق حرب العصابات، لأن حماس الآن في أفضل حالاتها". التصريح يعني ضمنًا أن الجيش يقاتل تنظيمًا لا يمكن هزيمته بالأساليب التقليدية.

وهنا، يبرز سؤال جوهري: إذا كانت الدولة عاجزة عن كسب الحرب، فلماذا تستمر بها؟ الإجابة تكمن في البنية السياسية ذاتها: لأن بقاء الحرب هو الذي يضمن بقاء نتنياهو.

الإعلام الدولي يقلب الرواية

لم يعد الإعلام العالمي محايدًا، أو صامتًا. صحيفة لوموند الفرنسية أفردت تغطية خاصة لعمليات غزة الأخيرة، واعتبرت أن خسائر "الجيش الإسرائيلي" تؤجج الجدل حول ضرورة إنهاء الحرب. وأشارت إلى أن كمين بيت حانون يدعم "الشكوك المتزايدة لدى ضباط إسرائيليين بشأن جدوى استمرار العمليات العسكرية".

هذه ليست مجرد تقارير صحفية، بل مؤشرات على تغيّر مزاج دولي، بدأت مؤسسات غربية كبرى في مساءلة "إسرائيل" علنًا، ليس فقط على المستوى الأخلاقي، بل أيضًا على المستوى العسكري. فإذا كانت "إسرائيل" دولة ذات تفوق تقني وعسكري، كيف تفسر خسارتها الميدانية أمام جيوب مقاومة تعيش تحت الحصار؟

أبو عبيدة ورسالة الرعب الصامتة

"أغبى قرار يمكن أن يتخذه نتنياهو هو إبقاء قواته في غزة"، هكذا تحدث أبو عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب القسام، في واحدة من أقوى رسائل الردع النفسية منذ بدء العدوان.

وأضاف أن كمين بيت حانون هو "ضربة لهيبة الجيش ووحداته الأكثر إجرامًا"، وهدد بتكبيد الاحتلال خسائر يومية من شمال القطاع إلى جنوبه، مشيرًا إلى إمكانية أسر جنود جدد.

الرسالة هنا مركبة: أولًا، نحن نعرف مناطقكم "الآمنة"، ثانيًا، نحن نُجهز لهجوم نوعي، ثالثًا، البقاء داخل غزة ليس أمنًا لإسرائيل بل تهديد مستمر لجيشها.

هكذا تُعيد المقاومة صياغة معادلة الردع: ليس من خلال النصر السريع، بل من خلال الاستنزاف الطويل الذي يضرب الجبهة الداخلية قبل الجبهة العسكرية.

في بنية الدولة العميقة… كيف تقاوم إسرائيل التعلم؟

إن الدول القوية ليست تلك التي ترتكب الجرائم، بل تلك التي تنكرها ثم تكررها. "إسرائيل"، في هذا السياق، لا تتعلم من أخطائها. فهي لم تتعلم من لبنان، ولم تتعلم من غزة 2008 أو 2014، واليوم تكرر ما فعلته في بيت حانون.

لماذا؟ لأن الدولة الاحتلالية في جوهرها لا ترى الفلسطيني كخصم عسكري متكافئ، بل ككائن يجب إخضاعه، أو تهميشه، أو تهجيره. ومن هنا تنشأ الفجوة بين العقل العسكري والعقل السياسي. فالجنرالات يدركون أن المعركة خاسرة، لكن القيادة السياسية ترفض الاعتراف، لأنها تُدير البلاد كحملة انتخابية لا كمؤسسة وطنية.

غزة كمرآة انهيار المشروع الصهيوني

ما جرى في بيت حانون ليس تفصيلاً ميدانيًا، بل لحظة كاشفة: المقاومة ليست ظاهرة مؤقتة، ولا خللًا أمنيًا، بل نتيجة تاريخية ومنطقية لاحتلال يريد الأرض بلا شعب. "والجيش الإسرائيلي"، الذي كان يُنظر إليه كأقوى جيوش المنطقة، يتحول تدريجيًا إلى جيش مرتبك، فاقد للثقة، عاجز عن الحسم.

في المقابل، غزة – رغم الدمار والمجازر – تصوغ معادلة جديدة: شعب محاصر، لكنه لا يساوم على كرامته؛ ومقاومة تحت القصف، لكنها لا تتخلى عن المبادرة؛ وقيادة ميدانية، تقاتل وتفاوض في آن، لكنها لا تتنازل.

وهنا تحديدًا، يصدق ما قاله أحد "الجنود الإسرائيليين" لصحيفة هآرتس:

"نحن لا نقاتل من أجل الأمن، بل من أجل بقاء حكومة لم تعد تمثل أحدًا."

في النهاية، لا تسقط الجيوش بالخسائر وحدها، بل بالسؤال القاتل الذي يُطرح داخلها: لماذا نقاتل؟

وغزة، مرة أخرى، هي من يطرح هذا السؤال عليهم.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور