استشهد الأمين العام لحزب الله السيد حسن السيد نصرالله تاركاً خلفه إرثاً لا يقتصر على الساحة اللبنانية وحدها، بل يتجاوزها إلى ميادين عربية أخرى، كان العراق إحداها. منذ توليه الأمانة العامة لحزب الله عام 1992، لم يكن دوره في بلاد الرافدين تقليدياً أو عابراً، بل كان جوهرياً، مزيجاً من الوساطة، والتأثير، وتقديم المشورة، حتى بات أحد أكثر الشخصيات التي تحظى بالاحترام لدى طيف واسع من القوى العراقية، بمن فيهم السيد مقتدى الصدر، الذي ينقل المقربون منه مدى إعجابه بشخصية السيد نصرالله القيادية، وتواصله معه في محطات حرجة.
مع سقوط بغداد عام 2003، دخل العراق مرحلة سياسية معقدة، حيث تشكّلت معادلات جديدة فرضتها موازين القوى المختلفة، من الاحتلال الأميركي إلى صعود الجماعات الارهابية المسلحة، وظهور قوى سياسية جديدة تبحث عن هوية مستقلة أو تسعى لفرض نفوذها. في هذا المشهد، لم يكن السيد نصرالله مجرد متابع للأحداث، بل كان شريكاً في توجيه بعض مساراتها، مستفيداً من شبكة علاقاته الواسعة في الداخل العراقي، ومع القوى الإقليمية الفاعلة.
عبر السنوات، لعب دوراً في ضبط إيقاع "البيت الشيعي"، عندما بعض الانقسامات تهدد بتفكيك تماسكه السياسي. وفي أوقات معينة، كانت رسائل السيد نصرالله تصل إلى بغداد لتكون كلمة الفصل في النزاعات بين الأطراف. لم يكن ذلك من باب فرض الوصاية، بل بناءاً على طلب مباشر من القوى العراقية نفسها، التي كانت ترى فيه مرجعية سياسية قادرة على تقريب وجهات النظر.
ربما كان السيد نصرالله الشخصية الوحيدة التي جمعت في علاقتها نقيضين داخل الساحة العراقية: جناح "الإطار التنسيقي"، والسيد مقتدى الصدر، الذي عرف بتقلباته السياسية وتوجهه نحو صياغة مسار سياسي متمايز. السيد الصدر، رغم خلافاته مع بعض حلفاء السيد نصرالله، كان يرى فيه شخصية ملهمة، واستشاره في أكثر من قضية، من تفاصيل العمل المقاوم، إلى التعاطي مع الاحتلال الأميركي، إلى كيفية التعامل مع الخصوم السياسيين داخل العراق، بحسب ما تؤكد مصادر مقربة منه.
وتؤكد المصادر نفسها أن السيد الصدر التقى السيد نصرالله مرات عدة، وكانت له معه جلسات مطولة تطرقت إلى مصير العراق السياسي، وطبيعة المرحلة المقبلة كونه زعيماً لحركة شعبية واسعة. أحد أبرز هذه اللقاءات كان عقب انسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2011، عندما بدأ الصدر يعيد رسم ملامح تياره السياسي بعيدًا عن العناوين المسلحة، وكان بحاجة إلى من يرشده في هذا المسار الجديد. السيد نصرالله، بخبرته في العمل السياسي والعسكري، قدم للصدر رؤية متكاملة حول كيفية التوازن بين "الرمزية الشعبية" و"الفاعلية السياسية"، وهي نصائح أخذ بها الصدر لاحقاً في مراحل مختلفة.
كان السيد نصرالله حاضراً في محطات مفصلية عدة في العراق، من سقوط صدام حسين، إلى المواجهة مع الاحتلال الأميركي، مروراً بالحرب على تنظيم داعش وما بعدها. في عام 2014، ومع اجتياح التنظيم لمناطق واسعة من العراق، كانت رسائله إلى الفصائل المسلحة حاسمة في تنظيم المواجهة، وهو ما ظهر جلياّ في عمليات استعادة المناطق التي سقطت بيد التنظيم. كان السيد نصرالله يدرك أن المواجهة مع داعش ليست معركة عراقية فقط، بل هي جزء من صراع إقليمي أوسع، وكانت نصائحه تتقاطع مع رؤية إيران، ولكنها تحمل بصمة لبنانية خاصة، تستند إلى خبرة حزب الله في القتال ضد إسرائيل.
وفي لحظات الانقسام الداخلي، خصوصاً بعد انتخابات 2021، حيث اشتد الخلاف بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، كانت قنوات السيد نصرالله مفتوحة لمحاولة منع الانزلاق إلى صدام داخلي، وهو ما نجح جزئياً في تحقيقه، وإن لم يكن بصورة كاملة بسبب تعقيدات المشهد العراقي.
رحل السيد نصرالله، لكن بصمته في العراق لا يمكن محوها بسهولة. كان صانع توازنات، ووسيطاً، ومرجعاً سياسياً لفئة واسعة من القوى الشيعية، بل حتى لبعض القوى السنية والكردية التي كانت ترى فيه نموذجاً لقيادة مقاومة تمتلك رؤية سياسية واضحة. لم يكن وجوده في العراق مرئيّاً كما هو في لبنان، لكنه كان فاعلاً بطرق غير مباشرة، عبر الرسائل، واللقاءات، والوساطات التي أنقذت العراق أكثر من مرة من الانفجار الداخلي.
اليوم، ومع غيابه، يطرح السؤال: هل من بديل يمكن أن يلعب الدور الذي كان يلعبه السيد نصرالله في العراق؟ الإجابة رهن المرحلة المقبلة، لكن ما هو مؤكد أن فراغه سيكون محسوساً، وأن العراق، كما لبنان، خسر واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً في تاريخه الحديث.