بينما كانت الأنظار مركّزة على جبهات غزة وجنوب لبنان، طرأ تحول لافت في الخطاب العسكري والسياسي الإسرائيلي تجاه اليمن. لم تعد صنعاء مجرد فاعل إقليمي مزعج في هامش المشهد، بل باتت تُصنّف -رسمياً- ساحة مركزية للتهديد، إلى جانب قطاع غزة، وفق ما أعلنه وزير الأمن السابق يوآف غالانت. هذا التحول في الخطاب أرفق بتسريبات في الاعلام العبري على أن خططاً تجهز لهجوم واسع على اليمن رداً على العمليات العسكرية التي تطال عمق الكيان، وعلى ما يبدو أنه لن يستطع تحملها إلى أمد طويل.
وفق القناة 14 العبرية، يُعدّ جيش الإحتلال خطّة هجوم واسعة ضد صنعاء، وقد صرّح مسؤول أمني رفيع أن ما تم تنفيذه في إيران خلال 12 دقيقة، يمكن تكراره في اليمن "عند اتخاذ القرار السياسي". هذا التلميح لا يحمل فقط لغة استعراض، بل يعكس إعادة تموضع في أولويات الردع الإسرائيلي.
لكن اللافت أكثر هو حجم الضغط الإعلامي والفكري الأميركي المتصاعد ضد أي محاولة لاحتواء صنعاء دبلوماسياً. فقد نشرت مجلة ذا ناشونال إنترست، المنصة الفكرية البارزة للتيار المحافظ في واشنطن، مقالة تحليلية بقلم رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD مارك دوبويتز، دع فيها بوضوح إلى التخلي عن منطق التهدئة مع صنعاء، والتوجّه نحو الردع العسكري المباشر.
مقال دوبويتز ليس مجرد رأي، بل يعكس توجّه مركز ثقل فكري قريب من دوائر صنع القرار الأميركي، يضغط باتجاه توسيع دائرة الحسم ضد خصوم واشنطن وتل أبيب. يُحمّل الكاتب إدارة بايدن مسؤولية التراخي، ويعتبر أن كل وقف إطلاق نار مع صنعاء هو فرصة لإعادة التسلح وتنظيم الصفوف، ما يجعل من سياسة "خفض التصعيد مهما كلف الأمر" وصفة للفشل وليس للاستقرار، بحسب قوله.
الخطاب في ذا ناشونال إنترست لا يكتفي بتوصيف صنعاء كتهديد مباشر لإسرائيل فحسب، بل يربطها أيضاً باستهداف حرية الملاحة في البحر الأحمر، وتهديد سلاسل الإمداد العالمية. هذا الربط مقصود، إذ يسعى التيار المحافظ الأميركي إلى بناء إجماع دولي على أن ترك صنعاء دون حسم عسكري سيُقوض الهيبة الغربية في البحر الأحمر، ويُضعف أدوات الردع الأميركية.
من الناحية العملياتية، نجحت القوات المسلحة اليمنية في فرض معادلة جديدة على تل أبيب: تهديد من بُعد، متعدد الوسائط، يشمل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة والهجمات البحرية. والضربة الأخيرة التي طالت مطار بن غوريون كانت كافية لدفع بعض شركات الطيران الأجنبية مثل LOT البولندية إلى تمديد وقف رحلاتها حتى إشعار آخر. ورغم أن شركات أخرى أعلنت عودتها، إلا أن حالة عدم اليقين تبقى قائمة، وتكشف مدى هشاشة الأمن الجوي الإسرائيلي أمام هجمات قادمة من بعد أكثر من 1500 كيلومتر.
في المقابل، يُحاول الخطاب الإسرائيلي تصوير العملية المقبلة كحسم سريع وحاسم، لكن الواقع الميداني المعقّد، وتجربة واشنطن نفسها في عمليات "راف رايدر" الأخيرة، تُشير إلى أن القضاء على القدرات العسكرية لصنعاء لن يكون بتلك السهولة. فقد سبق أن أعلنت الولايات المتحدة في آذار/مارس الماضي تنفيذ عملية موسعة ضد أهداف في اليمن، استهدفت أكثر من ألف موقع. ورغم ذلك، استؤنفت الهجمات البحرية بعد أسابيع، ما يُضعف حجة أن الردع وحده كافٍ لتحقيق الهدف.
المسألة ليست مجرد قرار سياسي ببدء هجوم، بل تحدٍّ استراتيجي يتعلّق بإعادة تعريف موازين القوة في الإقليم. فصنعاء أثبتت خلال الأشهر الماضية أنها فاعل مستقل في القرار، وقادرة على استغلال كل فراغ جيوسياسي لفرض حضورها، سواء في البحر أو الجو. وفي الوقت الذي يُعاد فيه تشكيل مشهد الأمن الإقليمي، تُطرح تساؤلات جدية حول قدرة إسرائيل والولايات المتحدة على إدارة جبهات متعددة في آن واحد، دون أن يؤدي ذلك إلى استنزاف أو فشل ردعي آخر.
ما يتشكل اليوم هو اعتراف ضمني بأن الحضور اليمني لم يعد هامشياً، وأن التعامل معه بسياسات الأمس لن يُجدي. صنعاء لم تعد رقماً ثانوياً في المعادلة، بل باتت رأس حربة في مواجهة استراتيجية مفتوحة، تتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية للصراع العربي–الإسرائيلي.