الأربعاء 30 نيسان , 2025 03:40

سقوط الـ F-18 في البحر الأحمر: حين تتهشم صورة القوة الأميركية تحت صواريخ اليمن

القوات اليمنية وحاملة الطائرات ترومان وطائرة F18

في حروب الهيمنة، لا تقاس الانتصارات بما تُعلنه الجيوش المنتصرة، بل بما تحجبه القوى العظمى عن وسائل إعلامها. هذا هو جوهر سقوط طائرة الـ F-18 الأميركية في البحر الأحمر، في لحظة لم تكن فيها الطائرة وحيدة، ولا الحاملة هاري ترومان على هامش المعركة. الحادثة -كما قد يسميها البنتاغون- ليست إلا أحد وجوه تفكك المشروع الإمبراطوري الأميركي حين يُجبر على الانعطاف، لا نحو النصر، بل نحو النجاة.

 غرق الطائرة… وانكشاف المنظومة

منذ لحظة إعلان سقوط الطائرة، سعت الرواية الأميركية لتفكيك المشهد وتجزئته: حادث عرضي، طائرة تزحلقَت، جرار فقد السيطرة، إصابة طفيفة لأحد البحّارة. ولكن أيّ مراقب متابع لتسلسل الأحداث يدرك أن الرواية الأميركية ليست إلا جملة من التكتيكات الخطابية المصممة للفصل بين الفعل وسياقه، أي لإخفاء حقيقة أن الطائرة سقطت في لحظة اشتباك عنيف مع القوات اليمنية.

الطائرة لم تسقط في حالة سلم. سقطت في خضم عملية عسكرية أعلنت عنها صنعاء، استُخدم فيها عدد من الطائرات المسيّرة والصواريخ، واستهدفت فيها حاملة الطائرات "هاري ترومان" مباشرة. والاعتراف الأميركي نفسه، بأن الطائرة سقطت أثناء محاولة الحاملة مراوغة نيران يمنية، لا يُضعف هذا الربط، بل يعززه.

إذا كانت الطائرة، التي تزن بين 11 و17 طناً، قد زلّت بسبب انعطاف حاد، فإن السؤال هو: لماذا تنعطف "ترومان" أساساً؟ ما الذي دفع بها للفرار؟ إن هروب حاملة طائرات أميركية من موقع تمركزها يعادل انهيار أحد أركان القوة الأميركية التقليدية: وهم الردع البحري المطلق.

تفكيك الخطاب الأميركي – وظيفة الاعتراف الجزئي

يملك الإعلام الأميركي براعة فائقة في هندسة الاعترافات. لا تُقال الحقيقة دفعة واحدة. بل تُمنح عبر "التقطير الإعلامي"، من خلال تسريبات مسؤولين، مصادر غير مصرح بها، ووسائل إعلام شبه مستقلة، بغرض احتواء الكارثة دون أن تنفجر في وجه النظام.

بهذا المعنى، فإن اعتراف البحرية الأميركية بسقوط الطائرة لا يمثل شجاعة أو شفافية، بل خطوة استباقية تكتيكية هدفها تفريغ الرواية اليمنية من زخمها، وتقديم القصة من منظور "حادث عرضي". الاعتراف ليس قبولاً بالهزيمة، بل هو محاولة توجيه الرأي العام الأميركي بعيداً عن الأسئلة الحقيقية: لماذا تنزلق الطائرات في عرض البحر أثناء الاشتباك؟ ولماذا تتراجع حاملات الطائرات؟ ولماذا تفشل أنظمة الدفاع الأميركية في توفير الحماية في مواجهة قوات تعتبرها واشنطن "غير نظامية"؟

إن هذا النمط من التلاعب بالرواية هو امتداد لنهج إمبراطوري قائم على صناعة الوعي الكاذب، حيث تكون الغاية من الإعلام ليس تقديم الحقيقة، بل إنتاج سردية تُسكن القلق الجماعي وتُخدّر وعي الجمهور.

المعركة الرمزية – حين تنهار “الأسطورة”

طائرة الـ F-18 ليست مجرد قطعة حديد باهظة الثمن. إنها رمز. رمز للتفوق الأميركي الجوي، للتقنيات التي لا تُقهر، للتفوق الساحق على الخصم. وسقوطها لا يعني مجرد خسارة عتاد بقيمة 67 مليون دولار، بل اهتزاز في صورة "القوة التي لا تُهزم".

ولأن القوة العسكرية الأميركية ليست مصممة فقط للقتال، بل للردع، فإن لحظة السقوط –بغض النظر عن السبب الميكانيكي أو الفني– هي لحظة تفقد فيها الولايات المتحدة أهم ما تمتلكه في حروب الهيمنة: الخوف. فإذا كانت طائرة فائقة مثل F-18 يمكن أن تسقط في البحر أثناء الاشتباك، وإذا كانت حاملة الطائرات "ترومان" نفسها تضطر للفرار والانحراف الحاد لتفادي نيران القوات المسلحة اليمنية، فما الذي تبقى من صورة "سيدة البحار"؟

هنا تتكشف معالم الأزمة الحقيقية: ليست أزمة تقنية، بل استراتيجية. فحرب البحر الأحمر ليست مجرد مواجهة مع الحوثيين، بل مع منظومة صاعدة من الوعي المقاوم، تقود فيه اليمن -رغم الحصار والحرب- تحولًا جذريًا في ميزان الردع.

الحجب كتكتيك – بين فشل الدفاعات وهروب الحقيقة

لو كانت أنظمة الحماية في حاملة الطائرات "ترومان" تعمل بكفاءة، لما اضطرت للهرب أصلاً. هذا يعني إما أن أنظمة الإنذار المبكر والرادارات لم تتعرف على المقذوفات اليمنية، أو أنها أدركت حجم الخطر ولم تستطع مواجهته، فكان الخيار الوحيد هو المناورة الحادة… والتي تسببت بسقوط الطائرة. في كلا الاحتمالين، نحن أمام اختراق استراتيجي غير مسبوق.

وحين تعجز ترسانة عسكرية متقدمة عن التصدي لصواريخ ومسيّرات "بلد محاصر"، فإن ما يسقط ليس الطائرة فقط، بل منظومة الهيمنة نفسها.

ولذلك فإن الحجب الأميركي للمعلومات، والتشويش على السياق، والتسريب البطيء للوقائع، ليست إلا محاولات يائسة للإبقاء على وهم السيطرة في بحر لم يعد أميركياً، لا عسكريًا، ولا رمزيًا.

اليمن تكتب المعادلة – لا تُستنزف بل تَستنزف

الرسالة اليمنية لم تعد دفاعية. لم تعد المعركة محصورة في حماية السفن التجارية من القرصنة، أو في الرد على الغارات الأميركية. نحن أمام انتقال نوعي في طبيعة المواجهة: من الصد إلى المبادرة، من الدفاع إلى الهجوم، ومن التموضع إلى إعادة التموضع القسري للعدو.

أن تتراجع "ترومان" شمالًا، وأن تُجبر على الانعطاف الحاد، وأن تعيش قواتها في حالة رعب وإجهاد بعد أكثر من ستة أسابيع من العمليات المتواصلة، فهذا ليس فقط انهيارًا في الأداء، بل بداية لانهيار العقيدة العسكرية الأميركية التي لطالما قامت على حسم المعركة من البحر.

في هذا السياق، يصبح الصمت اليمني عن تفاصيل إسقاط الطائرة ليس غموضاً، بل رسالة مدروسة: إننا لا نتحدث الآن، لأن القادم أعظم. ولأن ما نقوم به على الأرض، في البحر، وفي الجو، هو ما سيتحدث عن نفسه في الوقت المناسب.

من البحر الأحمر إلى الخليج – هل تسقط الإمبراطورية على وقع الطائرات المسيّرة؟

إن حادثة سقوط الـ F-18 ليست مجرد عنوان في نشرة إخبارية. إنها مؤشر على مرحلة جديدة، فيها تفقد القوة الأميركية قدرتها على التحكم بالسردية، وتتحول من فاعل إلى مفعول به، ومن سيد للميدان إلى هارب منه. هذا الانزلاق المادي للطائرة، هو انعكاس رمزي لانزلاق المشروع الأميركي في الشرق الأوسط نحو الهزيمة.

حين تُجبر حاملة الطائرات على الفرار، وتتساقط طائراتها في عرض البحر، وينهار معها خطاب الردع، فإن سؤال ما بعد الهيمنة لم يعد نبوءة، بل واقع يتشكل بصواريخ تُصنع في كهوف جبال اليمن، وبأيدٍ حفاة لكنهم يمتلكون أكثر ما تخشاه الإمبراطوريات: الإرادة، والوعي، والإيمان بأن النصر ليس أرقامًا، بل صمودٌ وصبرٌ واشتباكٌ طويل النفس.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور