في عالم تُختزل فيه الكوارث إلى أرقام، وتُختطف فيه اللغة لتبرير القتل تحت مسمى "حق الدفاع"، تدخل غزة، مجددًا، في تجربة استعمارية جديدة عنوانها "المساعدات". مشروع الممرات الإنسانية الجديد، الذي روّجت له واشنطن وتل أبيب باعتباره مسارًا بديلًا لتخفيف معاناة المحاصرين، لم يكن في جوهره إلا استكمالًا لهندسة استعمارية معقدة تستبدل البندقية بحزمة غذائية، والاحتلال التقليدي بـ"الشحن اللوجستي".
يجب أن يُفهم هذا المشروع لا بوصفه مبادرة إغاثية فشلت، بل كمخطط استعماري تم كشفه. ومن هذا المنظور، فإن انهيار تجربة "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) في يومها الأول لم يكن نتيجة أخطاء في التنفيذ، بل نتاجًا مباشرًا لمنطق يقوم على عسكرة الفقر وتسليع الاحتياجات الإنسانية وتفكيك الصلات المجتمعية. "إسرائيل"، ومن خلفها الإدارة الأميركية، أرادت إعادة صياغة العلاقة بين الفلسطيني والغذاء، ليس كحق، بل كامتياز تمنحه المنظومة الاستعمارية في مقابل الخضوع.
عسكرة المساعدات: "أكل ما بعد الطاعة"
أن تُحاط مراكز توزيع الغذاء بالأسلاك الشائكة والكاميرات، وأن تُشغَّل من قبل شركات أمنية خاصة مدججة بالسلاح، يعني أن الغاية لم تكن أبدًا الإغاثة. بل كان الهدف تعميق منطق "التحكم بالاحتياجات"، وتدريب الفلسطيني على شكل جديد من الاحتلال لا يرفع السلاح، بل يرفع كرتونة غذاء بشروط. في هذا السياق، تبدو "المساعدات" في رفح ونتساريم وموراج ليست أدوات نجاة، بل عناصر في مسرحية أمنية تهدف إلى تطويع المجتمع المحلي نفسيًا ومكانيًا.
فإن هذه المساعدات ليست فصلًا إنسانيًا منفصلًا عن العملية العسكرية "الإسرائيلية" المسماة "عربات جدعون". بل إنها تمثل جبهة أخرى من جبهات المعركة، وهي جبهة تقوم على خنق السكان وإعادة توزيعهم جغرافيًا ضمن خرائط تفصيلية معدّة مسبقًا.
نزع السياسة من الجوع: كيف يُدار القهر بلغة الإغاثة
من أكبر إنجازات البروباغندا الغربية تحويل المأساة الفلسطينية من قضية استعمارية إلى "أزمة إنسانية". لكن الأدهى هو عندما تُستَخدم هذه اللغة "الإنسانية" كأداة لاستمرار السيطرة. فحين تُحاصر غزة لثمانية أشهر متواصلة، ثم يُفتَح لها "ممر إنساني" بشروط أمنية "إسرائيلية"، نحن لسنا أمام جهد إغاثي بل أمام ترويج لفكرة الاستعمار الرحيم.
هذه الآلية، التي صُمّمت من قبل مراكز أبحاث "إسرائيلية" وأميركية على الأرجح، لا تهدف فقط إلى ضبط الغذاء والدواء، بل إلى فرض الطاعة من خلال الجوع. هي طريقة لإعادة إنتاج ما يشبه "نظام الغيتو" الذي مارسته القوى الاستعمارية الأوروبية: العزل، السيطرة على الإمدادات، وترويض السلوك.
انهيار اليوم الأول: لحظة سقوط القناع
انهيار المركز في تل السلطان، واقتحام آلاف الجوعى للموقع، لم يكن حادثًا عرضيًا. لقد مثّل، بكل وضوح، رفضًا شعبيًا تلقائيًا لمعادلة الذل التي حاولت "إسرائيل" فرضها. حين استولى النازحون على كل شيء من المساعدات إلى الأثاث، فإنهم كانوا، من حيث لا يدرون ربما، يعيدون تعريف فعل المقاومة في لحظة الجوع: المقاومة ليست فقط بإطلاق الصواريخ، بل برفض تلقي الغذاء من عدوك كأنه "منة".
المشهد عبّر عن لحظة استعادة للكرامة الجمعية، حتى في لحظة الفوضى. وهي فوضى لم تأتِ من غياب التنظيم الفلسطيني، بل من الانهيار الأخلاقي والسياسي لمَن أرادوا أن يتعاملوا مع الإنسان الفلسطيني كحيوان يمكن قيادته عبر الحواجز والممرات وأجهزة التفتيش البيومترية.
بين النموذج "الإسرائيلي" وموت الأونروا
لا يمكن عزل مشروع «GHF» عن الحرب الشرسة التي تشنها "إسرائيل"، وبدعم أميركي واضح، على وكالة "الأونروا". فالغاية من هذا التحرك لا تتعلق بتحسين إيصال المساعدات، بل بإعادة هيكلة المنظومة الإغاثية بحيث يتم طرد أي جهة أممية تحمل ولو ظلًا من الشرعية الدولية لصالح آليات احتلالية مموّهة.
بكلمات أوضح، تريد "إسرائيل" أن تمسك بسكين المطبخ وهي تُطعم الضحية. لا "الأونروا"، ولا الصليب الأحمر، ولا مؤسسات المجتمع المدني مسموح لها بأن تبني علاقة مباشرة مع السكان المحاصرين، لأن ذلك يهدد احتكار "إسرائيل" لمعاني الحياة والموت في القطاع.
فلسطين بين الهندسة "الإسرائيلية" والابتزاز الأميركي
من وجهة نظر استراتيجية، فإن ما يحدث في غزة ليس سوى حلقة من عملية إعادة رسم الخريطة الديموغرافية والسياسية للقطاع. "إسرائيل"، في مشروعها هذا، تحاول ليس فقط تجويع السكان، بل أيضًا ربطهم وجوديًا بالممرات التي تحددها هي: من يُطعِم، يُسيطر. ومن يُسيطر، يُعيد تعريف من هو الفلسطيني "النافع" ومن هو الفلسطيني "المعاند".
الولايات المتحدة، من جهتها، تغطي هذا الانقلاب الإنساني – الأمني، بل وتدعمه تقنيًا ولوجستيًا، في إطار أوسع لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يتوافق مع الرؤية الترامبية القديمة - الجديدة: غزة بلا مقاومة، بلا أونروا، وبلا قضية.
ما بعد الفشل: أي سيناريوهات قادمة؟
برغم انهيار الجولة الأولى، لا يبدو أن "إسرائيل" والولايات المتحدة ستتخليان عن الخطة. ربما يعيدان ضبط الشكل، تغيير الأسماء، تجديد الشركات، وتكثيف الحماية العسكرية. لكن جوهر الفكرة سيبقى: استخدام "الإنسانية" لفرض الاستسلام. وفي هذا السياق، فإن الخطر الحقيقي ليس فقط في استمرار هذه المحاولات، بل في تسويقها عالميًا كـ"حلول وسط"، وتقديم من يعارضها بوصفه "يعترض على إغاثة شعبه".
لكن، وعلى الرغم من هذا المشهد القاتم، فقد أظهرت الفوضى التي عمّت المركز أن الفكرة التي بنت عليها "إسرائيل" مشروعها لا تزال غير قابلة للتطبيق: لا يمكنك احتلال شعب وإطعامه في الوقت نفسه، إلا إذا قررت تحويل المساعدات إلى طعام مشروط بالهزيمة. والفلسطيني، كما أثبت مرارًا، لا يأكل الهزيمة.
وفي نهاية المطاف، ما جرى في رفح ليس مجرد فشل لوجستي، بل سقوط أخلاقي كامل لمشروع يُعيد تعريف "الإنسانية" بلغة السلاح والجدران والأسلاك. ولأن الشعوب لا يمكن تدجينها بالجوع، فإن محاولة تحويل القطاع إلى مختبر لإنتاج فلسطيني جديد خاضع وآمن ستظل تصطدم بجدار الرفض الشعبي، لا سيما حين يكون الجوع نفسه فعل مقاومة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com