في قلب بحرٍ عاصفٍ من الإبادة السياسية والقانونية، تبحر سفينة صغيرة تدعى "مادلين". لا تحمل أسلحة ولا جيوشًا ولا أجندات خفية، فقط 12 ناشطًا، وعددًا رمزيًا من صناديق الدواء والغذاء، وبعضًا من الكرامة الإنسانية. قد يبدو المشهد سرياليًا، وربما عبثيًا في منطق الواقعية السياسية، لكن، كما علمنا التاريخ، فإن اللحظات الأكثر نقاءً في الضمير الإنساني تأتي أحيانًا على هيئة قارب خشبي يصطدم بعقيدة حديدية من الحصار والتواطؤ والصمت العالمي.
إن السؤال المطروح عن جدوى هذه المحاولة لا يُجاب عليه بمعايير النجاح المادي المباشر، بل يُجاب عليه عبر استحضار البنية العميقة للنظام العالمي: من يتحكم؟ من يُسكت؟ من يُحاصر؟ ومن يُسمح له أن يعترض سفنًا في المياه الدولية دون مساءلة؟ هنا بالضبط يبدأ تحليل كهذا.
الإبادة بصفتها ممارسة يومية مغلفة بالقانون
ما تواجهه غزة منذ 7 أكتوبر 2023 ليس مجرد حملة عسكرية، بل تنفيذ حرفي لعقيدة أمنية استعمارية ترى في الحياة الفلسطينية خطرًا بنيويًا. هذه ليست حربًا على "حماس" كما يُدّعى، بل على قدرة شعب بأسره على البقاء، على النجاة، على الولادة، على التنفس.
عندما تُجبر منظمة مدنية دولية مثل "أسطول الحرية" على إرسال سفن صغيرة لتوصيل حفنة من الأدوية وسط بحر يُحكمه الأسطول الإسرائيلي المدجج بالرادارات والغواصات، فإننا أمام مشهد فاضح لانهيار النظام الدولي، أو ما تبقى منه من مظاهر إنسانية.
سفينة "مادلين" ليست مجرد وسيلة شحن. إنها صفعة على وجه النظام العالمي الذي يُمعن في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كملف إداري قابل للتأجيل، طالما لا يمس مصالح الشركات الكبرى، أو استقرار الأسواق.
"مادلين": سفينة رمزية في بحر الوقاحة الدولية
حُمّلت السفينة باسم امرأة فلسطينية، أول من كسرت احتكار الرجال في مهنة الصيد في غزة. الاسم وحده كافٍ لاستفزاز نظام لا يتحمل فكرة "التمكين" خارج شروطه. "النظام الإسرائيلي"، كما لاحظنا في سلوكه مع "مادلين"، يرى في كل عمل رمزي تهديدًا وجوديًا. الرمز هنا ليس في الصندوق الغذائي، بل في الانفلات من سيطرة الخطاب، في تحرر الفعل السياسي من إملاءات الخوف.
ما قامت به قوات "الكوماندوز الإسرائيلية "— اقتحام سفينة في المياه الدولية، تشويش اتصالاتها، رش النشطاء بمواد كيماوية، اختطافهم، إعادة توجيه السفينة — يُعد بموجب القانون الدولي، قرصنة كاملة. لكننا نعيش في زمن باتت فيه القرصنة مشرعنة إن تمت بواسطة الحليف المناسب.
اللافت أن السفينة كانت ترفع العلم البريطاني، ومع ذلك لم يُثر انتهاك سيادتها سؤالًا جديًا في لندن أو بروكسل أو واشنطن. ما يُعدّ عملًا حربيًا لو قامت به إيران في الخليج، يُعتبر "تدبيرًا أمنيًا مشروعًا" حين تقوم به "إسرائيل". ازدواجية المعايير هنا ليست انحيازًا أخلاقيًا بل تعبير عن هيكل الهيمنة العالمي.
أين يقف القانون؟ حين يُستخدم القانون كأداة للاستثناء
المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر العقاب الجماعي، لكن غزة بكاملها تعاقب منذ 2006، دون انقطاع. القانون البحري لا يجيز لدولة أن تعترض سفنًا مدنية في المياه الدولية ما لم تكن في حالة حرب مشروعة وفقًا لميثاق الأمم المتحدة. "إسرائيل" ليست في حرب ضد دولة، بل ضد شعب، ومع ذلك يتسامح النظام الدولي مع سلوكها.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى. عام 2010، قُتل تسعة نشطاء على متن “مافي مرمرة”، بينهم مواطنون أتراك. ورغم الإدانة الأممية، لم يُحاسب أحد، بل اكتفت "إسرائيل" بـ"الاعتذار" في العام 2016، ضمن صفقة تطبيع مع أنقرة.
"مادلين" تكشف مجددًا عن نفاق القانون الدولي، حين يُستخدم لشرعنة ما لا يُشرعن: حصار، قتل بطيء، وتعامل مع الفلسطيني ككائن دوني لا حقوق له.
لكن، هل نجحت؟ سؤال الفعل السياسي في زمن ما بعد الأخلاق
ما الجدوى؟ سؤال يبدو بريئًا، لكنه في جوهره يعكس منطقًا متخاذلًا. من يطرح هذا السؤال غالبًا ما يكون قد سلّم بأن التغيير مستحيل، وأن المقاومة لا تنفع. هذا الخطاب ليس تحليلًا بل إعادة إنتاج لليأس الرسمي.
ومع ذلك، لنجيب عليه:
- هل نجحت السفينة في إيصال المساعدات؟ لا.
- هل وصلت إلى غزة؟ لا.
- هل أعادت تشكيل وعي دولي حول حصار غزة؟ نعم.
- هل أربكت آلة العلاقات العامة الإسرائيلية؟ نعم.
- هل وضعت السياسيين الأوروبيين في موقف حرج؟ نعم، خصوصًا بعد رفض بريطانيا إيقاف السفينة رغم الضغوط "الإسرائيلية".
"مادلين" لا تُقاس بقدرتها على تغيير الواقع ميدانيًا، بل بقدرتها على كسر حاجز الصمت، وعلى فضح النظام الذي يحوّل القانون إلى أداة طيّعة بيد القوة.
اللاجدوى كفعل مقاومة
نعرف من تجارب التاريخ أن كثيرًا من الأفعال الثورية الأولى بدت غير مجدية. روزا باركس لم تُسقط التمييز العنصري عندما رفضت التخلي عن مقعدها، لكنها حركت سلسلة. غاندي لم يُخرج البريطانيين من الهند بصناعة الملح، لكنه فضحهم أمام أنفسهم. "مادلين" ليست قنبلة، لكنها مرآة.
في عصر أصبح فيه الصمت هو القاعدة، والتطبيع هو السياسة، والقتل الجماعي هو "الحق في الدفاع عن النفس"، فإن كل خروج عن النص هو إنجاز.
"مادلين" ليست محاولة لكسر الحصار فقط، بل لتذكير العالم بأن هناك حصارًا قائمًا، مفروضًا منذ 17 عامًا، ومصممًا لإبادة الروح قبل الجسد.
في قلب العبث، تولد الأخلاق
في النهاية، لا يُقاس العمل الأخلاقي بمردوديته اللحظية، بل بقدرته على كشف الباطل، وتحدي الصمت، وإعادة بناء الحقيقة. "مادلين" ليست حلًا لغزة، لكنها موقف. والوقوف موقفًا واضحًا في زمن القتل باسم الأمن، هو بحد ذاته مقاومة.
ربما لم تصل السفينة إلى غزة، لكنها وصلت إلى عقول وقلوب كثيرين. وربما لم تفك الحصار، لكنها حفرت شقًا في جداره الصامت.
وكما قال أحد الناشطين على متنها قبل انقطاع الاتصال:
"إن لم ننجح اليوم، فليكن فشلنا صرخة تُسمع في قلب البحر."
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com