الثلاثاء 10 حزيران , 2025 03:24

غزة بين تقاعس الغرب والمبادرات الفردية

المبادرات الفردية تتحرك لرفع الجوع عن غزة

في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، برزت مبادرة شجاعة من قبل نشطاء على متن سفينة "مادلين"، بينهم الناشطة غريتا ثونبرغ والناشط البرازيلي تياغو أفيلا، والذين حاولوا اختراق الحصار المفروض من قبل الاحتلال على قطاع غزة لتوصيل المساعدات الضرورية إلى المحاصرين. هذه المحاولة الرمزية لم تكن مجرد نقل إمدادات، بل صرخة إنسانية تواجه صمتاً دولياً وتواطؤاً غربياً واضحاً مع السياسة الإسرائيلية التي تهدف إلى فرض حصار قاسٍ يهدد حياة الملايين. يكشف المقال الذي نشرته صحيفة "ذا غارديان" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني، الفجوة الهائلة بين الشجاعة الفردية لهؤلاء النشطاء وغياب الإرادة السياسية الفعلية من الحكومات الغربية، التي رغم علمها بتفاصيل الحصار الممنهج اختارت التذرع بالبروتوكولات الرسمية، والتستر خلف مصالحها السياسية والعسكرية. من التشويه الإعلامي إلى الإغفال المتعمد، كما يسلط المقال الضوء على كيفية تحوّل غزة إلى مسرح لجريمة إنسانية مدعومة دولياً، في مقابل أصوات شجاعة تكسر الصمت وتفضح هذه الجرائم.

النص المترجم:

تخيل هذا: في عطلة نهاية الأسبوع، قررت بريطانيا -التي صُدمت من حجم المعاناة في غزة- تجاوز المعايير والمؤسسات الدولية، واستخدمت بحريتها لتوصيل الطعام، وحليب الأطفال، والإمدادات الطبية إلى موانئ قطاع غزة.

لكن هذا، بالطبع، لم يحدث. بدلاً من ذلك، كانت المهمة على عاتق النشطاء على متن السفينة "مادلين". في الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين، تم اقتحام السفينة من قبل الجنود الإسرائيليين، زاعمين أن العملية تمت في المياه الدولية، وتم أخذ الطاقم إلى الموانئ الإسرائيلية استعداداً لترحيلهم. منذ أن تم نشر الخبر، قامت آلة الدعاية الإسرائيلية بالتحرك بسرعة، ووصفت "مادلين" بـ "يخت السيلفي"، وهو الخط الذي تبناه العديد من وسائل الإعلام الغربية. ومن الجدير بالذكر أن "ائتلاف القوافل الحرة" -الحركة التي تقف وراء مادلين- تم إطلاقها في عام 2010، أي قبل 13 عاماً من 7 أكتوبر. كما أن الحصار المفروض على حركة البضائع والأشخاص في غزة قد استمر لما يقرب من عقدين. وكما قال مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت: "الفكرة هي أن نضع الفلسطينيين على حمية، ولكن دون أن نسمح لهم بالموت من الجوع".

في عام 2012، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية وثيقة رسمية مسرّبة، احتوى مضمونها على حسابات أجراها مسؤولون حكوميون لتحديد الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة كي لا يموت الإنسان جوعاً. الهدف من هذا الحساب لم يكن إنقاذ الأرواح، بل جعل حياة سكان غزة بائسة دون إثارة غضب عالمي ناجم عن مجاعة جماعية. قبل عام من 7 أكتوبر، حذّر برنامج الغذاء العالمي من "الوضع الإنساني الخطير هناك"، مشيراً إلى أن نحو نصف سكان غزة المحاصرين داخل ما يشبه القفص يعانون من "انعدام حاد في الأمن الغذائي".

خلال العشرين شهراً الماضية، صعّدت "إسرائيل" الحصار بشكل غير مسبوق. حتى رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، الذي كان لعقود من الزمن عضواً في حزب الليكود الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، أدان الدولة الإسرائيلية لارتكابها "جرائم حرب جسيمة كسياسة رسمية". ففي 10 أكتوبر 2023، على سبيل المثال، أعلن الجنرال الإسرائيلي غسان عليان الذي كان يتولى رئاسة الدائرة العسكرية المسؤولة ظاهرياً عن "المساعدات الإنسانية" أن سكان غزة يتحملون ذنباً جماعياً، وأضاف: "يتم التعامل مع الوحوش البشرية وفقاً لذلك. لقد فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً على غزة. لا كهرباء، لا ماء، فقط دمار أردتم الجحيم ستحصلون على الجحيم". ولم يكن هذا التصريح سوى واحد من عدة تصريحات تحمل نية إجرامية لكن الدول الغربية اختارت تجاهل هذه التحذيرات. ففي مارس 2024، كتب وزير الخارجية البريطاني آنذاك، ديفيد كاميرون، رسالة لاذعة إلى زميلته في حزب المحافظين أليشا كيرنز، التي كانت ترأس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم. أوضح في رسالته عدة وسائل كانت "إسرائيل" تستخدمها لمنع دخول المساعدات إلى غزة، بما في ذلك رفض فتح المزيد من المعابر البرية، وفتحها لفترات غير كافية، وفرض متطلبات تفتيش مفرطة. ورغم كل هذا، لم تفرض الحكومة البريطانية أي عقوبات، واستمرت في تزويد "إسرائيل" بالأسلحة، وهي تعلم تماماً أنها تتعمد تجويع سكان مدنيين.

 في عام 2024، تبيّن أن أعلى سلطتين أميركيتين في مجال المساعدات الإنسانية توصّلتا إلى أن "إسرائيل" كانت تتعمد منع وصول الغذاء والدواء إلى غزة. ووفقاً للتشريعات الأميركية، كان ينبغي أن يؤدي هذا الاستنتاج إلى تعليق شحنات الأسلحة فوراً لكن إدارة بايدن رفضت الاعتراف بهذه النتائج.

إحدى تعريفات الإبادة الجماعية، بحسب اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، هي: "إلحاق ظروف معيشية بالجماعة تؤدي إلى تدميرها الجسدي كلياً أو جزئياً". وهذا وصف دقيق لما تفعله "إسرائيل" في غزة. فقد قتلت 452 من عمال الإغاثة، واستهدفت بشكل منهجي عناصر الشرطة المكلّفين بحماية المساعدات، ودمّرت البنى التحتية اللازمة لإيصال المساعدات الإنسانية، ومنعت دخول الوقود والماء الضروريين لطهي الطعام. أكثر من 95% من الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة للاستعمال نتيجة للهجمات الإسرائيلية، و81% من المحاصيل الزراعية تعرضت لأضرار، و83% من النباتات تم تدميرها. كما أن غالبية المواشي والدواجن قد نُفقت، وإنتاج الحليب توقف تقريباً.

لقد جرّمت "إسرائيل" وكالة الأونروا، وهي الوكالة الإنسانية الأساسية في غزة، واستبدلت الهياكل الإنسانية القائمة بمؤسسة جديدة تُسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" وكما صرّح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، فإن هدف هذه المؤسسة هو السماح بدخول "الحد الأدنى الضروري" من المساعدات كي "لا يوقفنا العالم أو يتهمنا بارتكاب جرائم حرب". إيقاف ماذا؟ حسناً، سموتريتش يعلن صراحة أن "إسرائيل" تعتزم طرد كل الفلسطينيين الناجين من غزة. ولا تقتصر مشكلة المؤسسة الجديدة على أنها تقدم مساعدات ضئيلة وغالباً غير صالحة، بل إنها أقامت نقاط توزيع للمساعدات في جنوب القطاع، بهدف تفريغ شمال غزة عمداً من سكانه. وهناك، ارتكبت القوات الإسرائيلية مراراً مجازر بحق فلسطينيين يتضورون جوعاً، بعد أن حوّلت البنية الإنسانية إلى ما وصفه النائب البريطاني من حزب المحافظين كيت مالتهاوس بـ "ساحة رمي نار، أو مسلخ بشري".

لم تصل سفينة "مادلين" إلى شواطئ غزة. لكنها وطاقمها، فضحت بشاعةً أخلاقيةً أثارت اشمئزاز الشعوب الغربية، التي ستجبر حكوماتها في يوم من الأيام على إنهاء تقاعسها ولهذا السبب، في النهاية، ستخسر "إسرائيل".


المصدر: The Guardian

الكاتب: Owen Jones




روزنامة المحور