زينب عقيل
منذ ما يناهز منتصف القرن الماضي، شهد العالم أول حركة سياسية لتقنين الشذوذ الجنسي. ويمكن القول إن الحركة المعاصرة لتحرير الشذوذ ولدت من رحم اليسار الجديد، الذي بدأ في ستينيات القرن العشرين عندما حصل تمرّد شبابي ضدّ القيم الثقافية والسياسية لجيل آبائهم أي اليسار القديم، إذ نظروا إلى الأحزاب العمالية التقليدية والكتلة السوفيتية على أنها إما بيروقراطية للغاية أو غير ديمقراطية بما فيه الكفاية. على أن اليسار الجديد يعترف بجذوره من اليسار القديم، والمنظرون له مثل دينيس ألتمان وجون ديميليو وديفيد فيرنباخ وماريو ميلي، جميعهم مرتبطون بتيار اشتراكي أو شيوعي أو غيرهما. وقد اعترفوا جميعًا بأنهم مدينون للماركسية.
وفي حين نمت حركات الشذوذ المثلية وحققت بعض الانتصارات المهمة في ربع القرن الماضي، حينها أنتج ما يسمى "اليسار المثلي"، وهي مجلة أنتجها مجموعة من الرجال المثليين الماركسيين تأسست في لندن عام 1974، وكان الهدف منها مواجهة الحركات المثلية لتحديات الصراع الطبقي، ومواجهة الحركات العمالية والاشتراكية وتحديات التحرر الجنسي المثلي. وقد تتبعت تطور المواقف الماركسية تجاه الجنس، ونشرت مقالات عن النضالات في مكان العمل مثل "المثليين والنقابات العمالية" في عددها الأول،و "حركة العمال المثليين" في العدد الثاني، "All Worked UP” في العدد الثالث، "المثليون في العمل" في عددها السادس. و "سياسة مكان العمل: سياسة المثليين"، ومقالات عن مواقف المنظمات اليسارية تجاه قضية المثليين، مثل "حكاية قاتمة"، أو تعليق "الشيوعيين".
المثلية كحركة سياسية
في كتاب تحت عنوان "حركة حقوق المثليين في وقت مبكر (1864-1935)" للكاتبين جون لوريتسن وديفيد ثورستاد، يذكرنا بأن روابط الحركات مع اليسار تعود إلى ألمانيا في القرن التاسع عشر. وقد ظهر هذا الكتاب نتيجة ازدهار دراسات الشذوذ المثلية. يفيدنا هذا الكتاب باستيعاب بعض الحقائق الأساسية، على سبيل المثال: كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في طليعة الكفاح من أجل إلغاء الفقرة 175 المعادية للمثليين في ألمانيا في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. وعندما استولى البلاشفة على السلطة في روسيا، ألغوا القوانين المناهضة للشذوذ الجنسي، ودعموا الرابطة العالمية للإصلاح الجنسي المؤيدة للمثليين طوال عشرينيات القرن العشرين. كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية الألمانية أفضل حلفاء لحركة المثليين في عشرينيات القرن العشرين.
يتحدّث مؤلفا الكتاب لوريتسن وثورستاد عن إخفاقات الاشتراكيين الديمقراطيين والستالينيين، وهما من مؤيدي التيار التروتسكي في الشيوعية، تحدثا كيف استسلم الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان لإغراء "الطعم المثلي" عندما كانت هناك فضائح جنسية مثلية بين النخبة الأرستقراطية في الإمبراطورية الألمانية. وكيف استسلم الاشتراكيون الديمقراطيون والشيوعيون مرة أخرى عندما كان رئيس جيش الإنقاذ النازي إرنست روهم متاحًا كهدف.
وبعدها، بمجرد أن أعاد ستالين تجريم المثلية الجنسية في الاتحاد السوفيتي في عام 1934، أدار الشيوعيون ظهورهم لمواقفهم السابقة ووضعوا المثليين في إطار الانحطاط البرجوازي وحتى الفاشية. وانتهى الأمر بالسؤال "لماذا هربت المثلية الجنسية من القانون بين عامي 1917 و1934" خاصة أن ماركس وإنغلز لم يخفيا "رهاب المثلية" لديهم. وعليه، وبحلول الوقت الذي صعد فيه اليسار الجديد في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كان لا بد لليساريين الجدد من خوض معركة "شاقة" ضد التحيزات ضد المثليين داخل الكثير من اليسار. حتى بدت المثلية من القضايا الأساسية التي يقوم عليها التيار، حيث اعتبر اضطهاد هؤلاء بمثابة تناقض مع المبادئ اليسارية. على أنّ اليسار واليمين كتسميات سياسية، تعود للثورة الفرنسية عندما جلس اليعاقبة على اليسار في الجمعية الوطنية، والجيرونديون على اليمين، فأصبح اليسار يعني الحركات والمنظمات والميول الفكرية أو الثقافية التي تؤكد على روح المساواة، والرؤية الطوباوية لإعادة البناء الاجتماعي. على أن اليمين يمثل المحافظة على الأصولية.
مجموعة أخرى من التحقيقات حول المثلية واليسار في كتاب "الرجال المثليون والتاريخ الجنسي لليسار السياسي". حرره غيرت حكمة وهاري أوسترهويس وجيمس ستيكلي، تناول عرضًا لمدى تناقض الاشتراكيين الأوائل مثل كيفية قيام الكاتب الفرنسي اليساري أندريه بالتوفيق بين مثليته الجنسية والتعاطف مع الاتحاد السوفياتي بعد تجريم الشذوذ، وما قالته مدرسة فرانكفورت المبكرة عن المثليين حيث تحدّث الفيلسوف الشهير إريك فروم عن وجود علاقة بين المثلية واضطرابات الشخصية السادية التي تتميز بها الفاشية. وينتقد المحررون السذاجة الاشتراكية حول البيولوجيا والطب "العلميين" التي تتناقض مع تركيز اليسار على العوامل التاريخية والاجتماعية. وينتقدون أيضًا التطبيق المجرد للمبادئ الاشتراكية مع وجود فروق بينه وبين مشروع التحرر الذي ينفّذه وكلاء رأسماليون هم أكثر معاداةً للمثليين. ويعتبر النظام الروسي اليوم بقيادة فلاديمير بوتين من اشدّ المعادين للمثلية.
اليسار الغربي الجديد والمثلية
لقد كررت هذه الثورة التنظيمية نفسها على مدى عدة عقود، وبالتالي يمكن الحديث عن مجموعة من اليسار الجدد بدل يسار واحد جديد. تقلص اليسار الاشتراكي إلى ظلّ ما كان عليه، كما لم يعد لهم من الشيوعية إلا الظل. وقد أصبحوا أكثر تطرفًا وراديكالية مع مرور الزمن. في الولايات المتحدة، عملت المنظمات اليسارية لفترات وجيزة كحركة جماهيرية، إلا أن أيا منها لم يحافظ على تنظيم كبير لأكثر من عقد من الزمان. ومع ذلك، كان لها تأثير حاسم على التاريخ الأمريكي الحديث. لعب النشطاء اليساريون أدوارًا فاعلة في كل حركة اجتماعية تقدمية تقريبًا في أمريكا القرن العشرين: التنظيم العمالي، والحقوق المدنية وتحرير السود، والحركات المناهضة للحرب والسلام، والنسوية، وحقوق المثليين، والبيئة، ومناهضة العولمة. لقد شكلوا شروط النقاش في الثقافة السياسية الأمريكية وأجبروا السياسيين الرئيسيين على الرد على حججهم. وبالتالي فإن فهم تاريخ اليسار أمر بالغ الأهمية لفهم الموضوعات الرئيسية في التاريخ الغربي للشذوذ الجنسي، وفهم كيف تحرّك هؤلاء من تحرير الشذوذ الجنسي وجعله مقبولًا، إلى تأصيل الشذوذ الجنسي باعتباره أصليًا، خاصة بعد قرون وعصور من تمركز الكنيسة التي عملت على كبت الحياة الجنسية للمسيحيين حتى ضمن العلاقات الزوجية، باعتبار الجنس رذيلة. وأفضل تجلي لهذا التيار هو في الحزب الديموقراطي الامريكي، الذي بلغ ما يبلغه سابقًا فيما يتعلق بالصراع من اجل حقوق المثليين في حكومة بايدن الحالية.
المعارك للحصول على مكاسب
يبدو أن ما جعل اليسار الجديد جديدًا هو خيبة أمل أتباعه من المنظمات والأحزاب السياسية القائمة خاصة في الولايات المتحدة. حيث يسعى اليسار الجديد إلى سياسة التجديد الديموقراطي الدائم لكنه غالبًا ما يخضع للمؤسسة الرسمية التي يسعى لمقاومتها، ثمة اعتقاد أن المنظمات اليسارية القائمة قد اندمجت في النظام الرأسمالي والإمبريالي. في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وأماكن أخرى، سعى هؤلاء اليساريون الجدد إلى إنشاء أشكال غير حزبية من التنظيم، مثل المجالس ولجان العمال، على أنها أشكال قد حققت القطيعة الجذرية مع الأشكال القديمة للاشتراكية البرلمانية، في الولايات المتحدة تنشط الأحزاب اليسارية الجديدة كأحد جناحي الحزب الديموقراطي، والآخر هم الوسطيون. ولعلّ معركة "حقوق المثليين" هي بمثابة تحقيق إنجاز بعد سلاسل من الإخفاقات، والأهم، أنها حاجة سياسية بمثابة رأس الحربة لهؤلاء في وجه الجمهوريين وخاصة اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، الذي إذا استولى على الرئاسة بعدما استولى على الكونغرس من الممكن أن يخمد حركة هؤلاء لسنوات قادمة.
خلفية لفهم اليمين واليسار
الواقع أنه لا يمكن لأحد فهم السياسة أو أن يدخل عالمها دون أن يفهم كلمتين: اليسار واليمين. إذ تستدعي هاتان الكلمتان فهمًا لكلمات أخرى مفتاحية مثل محافظ وليبرالي وقومي وغيرها من الكلمات، وبعد أكثر من مئة عام من التقلبات السياسية والحروب وتأرجح النظام العالمي، لم تعد كلمة يسار تعني الأحزاب الشيوعية فقط. وكما رأينا في اليسار الغربي الجديد الذي تحدثنا عنه في المقال أنه لم يبقىَ له من الشيوعية إلا الظل، مع الحفاظ على بعض الأفكار الماركسية. ولم يعد ثمة يمين واحد ولا يسار واحد، هناك يمين ويسار متطرف، مثل حزب الخضر الفرنسي وحزب الخضر الالماني والحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني وهما يمثلان اكبر الأحزاب اليسارية المتطرفة في اوروبا والتي تقود معارك المثليين. ويمين ويسار معتدل أو ما يسمى بأحزاب الوسط، فاليمين الوسط هو أن تكون يميني ولكن لديك بعض أفكار اليسار، واليسار الوسط يعني أن تكون يساريًا وتأخذ بعض أفكار اليمين. وهناك يمين يؤمن بحرية الأديان، وهناك يمين يؤمن بدين واحد، وهناك يمين ليبرالي مستعد لإقامة الحروب من أجل الحرية الرأسمالية، وكذلك هناك يسار ليبرالي مستعد لخوض الحروب من أجل الحرية الشخصية على أن تكون المؤسسات الاقتصادية أكثر بيروقراطية وهو حال أغلب الأنظمة الاشتراكية.
اليسار بصفة عامة مشغول بصفتين أساسيتين في أي مكان في العالم، العدالة الاجتماعية والدفاع عن الحريات الفردية. وتسعى الأحزاب اليسارية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الدولة، بحيث لا يأكل القوي الضعيف من خلال حكومة كبيرة أي جهاز بيروقراطي ضخم ينظم أنشطة الحياة، ويتطلب ذلك فرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء ليتم إنفاقها على الشرائح الأقل دخلًا، من معاشات وتأمين صحي وغيرها. أما بالنسبة لحماية الحريات الخاصة، فيقدس اليسار حقوق الفرد الشخصية، ومن هنا اقترن اليسار بالليبرالية. فيدافعون عن حقوق المثليين والأقليات والهجرة والإجهاض، وبديهي أنهم يدافعون عن العولمة وانتقال رؤوس الأموال.
أما اليمين فهو غير مشغول بالحريات الخاصة وإنما بالنظام والقانون ومحاولة الحفاظ على تقاليد المجتمع واستقراره المستمدة من التعاليم الدينية التي تقدس الأسرة. ولذلك يقترن اليمين بكلمة محافظ. ولا ترى أغلب الأخزاب اليمينية أن المساواة بين الناس هو أمر ممكن، والتسلسل الهرمي في أي مجتمع أمر حتمي وطبيعي، لاعتبار أن أي مجتمع إذا تُرك لحاله سيتكون من أغنيار وفقراء وحاكمين ومحكومين، ولذلك يسعون لإطلاق آليات السوق بأقل قدر من التدخل من السلطة، ويفضلون حكومة صغيرة ، على مبدأ دعه يعمل دعه يمر.. وأن الدولة ليست محتاجة لنظام لكل أنشطة الحياة، ولكن أن تضع الدولة فقط قواعد شفافة وتطلق حرية السوق، والسوق سيتولى أمر المجتمع وتنظيمه. بعكس اليسار الذي يسعى إلى تدخل الدولة في ضبط السوق. ولذلك يميل اليسار إلى الإشتراكية بأشكالها المختلفة، فيما يتبنى اليمين النظام الرأسمالي أو السوق الحر.
إلى ذلك ثمة يمين قومي ويسار قومي، يؤمن اليمين القومي بأهمية وضرورة نقاء العرق لاعتباره مميزًا عن غيره، ويمكن أن يخوض لأجله صراعات عرقية، أما اليسار القومي فيكون بمعنى أنه يسعى لدعم حركات التحرر الوطني من الاحتلال وهيمنة القوى الاستعمارية مثل جمال عبد الناصر وفيدل كاسترو.
وعندما نقول أن اليسار يدعم كذا أو اليمين يدعم كذا، فهذا يعني أنه غالبًا سيفكر بكذا وكذا، مع ملاحظة فروق الثقافة. فمن الممكن أن تجد يمينًا في دولة ما يدعم زواج المثليين لأنهم لا يرون أنه يهدد ثقافة تلك المجتمع لأنه شائع، وهؤلاء يمكن أن تجدهم في أمريكا وأوروبا على حد سواء. كما أنه من الممكن أن تجد في العالم العربي أو الإسلامي يسار يعارض تمامًا حقوق وزواج المثليين. وعلى الرغم من إيمان الأحزاب اليمينية بحرية الأديان، إلا أن الأحزاب اليمينية الغربية في أوروبا والولايات المتحدة واليابان مثلا تعتمد النظام العلماني على أن تضمن الحرية الدينية للمواطنين. كما أنه من الممكن أن تجد يساري متدين لكن لديه مشكلة مع فرض المؤسسات الدينية.