إن ما حدث فی يوم 7 أكتوبر من العام الماضي تحت عنوان عملية طوفان الأقصى كان نتيجة 75 عاماً من النهب والاحتلال والعدوان والقتل، ونتيجة الغضب الخانق في هذه الجغرافيا المحدودة للشرق الأوسط، مما أدى في النهاية إلى انفجار بوجه سنوات طویلة من الوحشية والاحتلال؛ ولذلك فإن 7 أكتوبر له جذور تاريخية ونفسية، وهو نتاج أكثر من سبعة عقود من القمع المستمر الذي يمارس على شعب فلسطين الأعزل والمضطهد. لكن على الجانب الآخر، تشير حادثة 7 أكتوبر إلى تغير خطير في معادلة القوة في المنطقة؛ فإن الحروب التي دارت منذ عام 2000 بين الكيان الصهيوني وجبهة المقاومة (حروب 33 يوماً، 22 يوماً، 9 أيام، 7 أيام، 55 يوماً، 3 أيام) كانت قصيرة- من حيث الزمن، ومن حيث الجغرافيا، وكانت المعارك صغيرة الحجم ومحدودة؛ بينما في هذه المرحلة، فقد مر أكثر من عام على المعركة الشرسة بين كيان الاحتلال وجبهة المقاومة في أراضینا المحتلة ولبنان وجبهة الدعم والإسناد، وهذه المعركة مستمرة دون أي انقطاع، بل إننا نواجه تزايد عدوانية النظام الصهيوني، وأيضا تزاید القوة الدفاعیة على جانب جبهة المقاومة.
تعد إحداثيات المعركة هذه علامة على تغيّر استراتيجي في موازين القوة في المنطقة، ويمكن لنتيجة هذه الحرب أن تقدم صياغة مختلفة لأنماط من الأنظمة وبناء الأمن فی الإقليم. كما أن العدوان العسكري المباشر الذي شنه الكيان الصهيوني يوم 29 نوفمبر على أهداف عسکریة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعد تأكيداً عسكرياً وسياسياً لهذا النهج.
بعد أسابيع من الدعاية السياسية الضخمة ضد إيران، هاجم الكيان أخيرًا 20 هدفًا عسكريًا في إيران وفقًا لوسائل الإعلام العبرية، وتم اعتراض معظم الصواريخ بواسطة أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية. بينما كانت أدواتها الإعلانية الإذاعية والتلفزيونية والجيوش الإلكترونية تتدوال باستمرار نقلاً عن مسؤولين أمنيين وعسكريين إسرائيليين ان الضربة الإسرائيلية كانت باردة ومؤسفة!؛ وذلك لتعطيل الرد القادم من إيران. ومما لا شك فيه أن العدوان سيلقى رداً قوياً من إيران بعنوان عملية "الوعد الصادق 3".
لكن يبدو أن النظام الصهيوني، من حيث داعميه الرئيسيين، مثل الولايات المتحدة الأمریکية، غير مسموح له بتوسيع نطاق الصراع وتصعيد الحرب في المنطقة في الوقت الراهن. ومن ناحية أخرى، يدرك الكيان جيدًا أنه بدون دعم أمريكا، لن يتمكن من مواجهة الخيارات العسكرية الإيرانية وسيكون عرضة لرد عسكري إيراني شديد. والحقيقة أن ما حدث في الضربة الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران، يظهر تغيراً في معادلة موازين القوة في المنطقة، وأن الكيان لا يملك القدرة الكافية لتنفيذ تهديداته ضد ایران.
كان الإعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، واستشهاد مجموعة من القادة العسکریين الایرانیين فيها، واغتيال الشهيد اسماعيل هنية في طهران بمثابة إعلان حرب رسمياً على الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أن إيران داعمة لحركات المقاومة، إلا أن السبب وراء توسيع إسرائيل نطاق المواجهة نحو إيران هو مشاكل الكيان الخطيرة في إدارة ساحة المعركة على الحدود مع لبنان وفي القطاع؛ وبهدف إثارة حرب إقليمية، وتوريط المنطقة في صراع عسكري مباشر بين إيران وأمريكا. في الواقع، تسعى إسرائيل إلى إجبار إيران على الرد غير العقلاني والعاطفي على هجماتها وضرباتها، واستخدام الردود الإيرانية كذريعة لمشاركة عسكرية أمريكية مباشرة في هذه الحرب، لكن آداء صناع القرار والاستراتيجيين في إيران أغلق عليهم الطريق، ومنعت الجمهوریة الاسلامیة نتنياهو من تحقيق هدفه.
يبدو أن النظام الصهيوني في حالة تراجع، ويتجه نحو الزوال أكثر من أي وقت مضى؛ فمن ناحية، وعلى الرغم من اغتيال كبار قادة المقاومة، فإن العمليات العسكرية لجبهة المقاومة لم تتوقف فحسب، بل واجهت أيضاً كثافة في المدى والقوة في الاستهداف. إنها تساهم بقوة في تآكل إسرائيل، وتضع قادة العدو تحت الضغط المتزايد. ثمّة علامات واضحة على تغير موازين القوى في منطقة غرب وجنوب غرب آسيا. وبعبارة أخرى، فإن عنف الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين، وارتفاع منسوب القتل سببه أيضاً هذا التصور للوضع والتغير، بطبيعة الحال، العنف والقتل لم يكن ناجحاً وأدى إلى غرق إسرائيل أكثر من أي وقت مضى.
يشعر النظام الصهيوني حاليًا بنوع من التهديد الوجودي؛ وتجد إسرائيل نفسها بين حافتي الوجود واللاوجود، وعلى الرغم من كل الدعم المالي وواللوجستي والأسلحة التي تلقتها من الغرب على مر السنين، إلا أنها تشعر بالتهديد فيما يتعلق بوجودها في المواجهة مع جبهة المقاومة؛ ولذلك، يبرر الكيان هذا العنف غير المسبوق واستمراره خلال الأشهر الـ 13 الماضية.
وعلى الرغم من حجم الضغوط والتدمير الذي يمارسه الكيان الصهيوني، إلا أن المقاومة لا تزال في نمو وتقدم في الميدان لا سيما في جبهة لبنان. في الحقيقة، يمكننا اليوم أن نعتبر حركة المقاومة تنظيماً قتالياً متطوراً وذو خبرة، وشهد تغيرات جوهرية في خصائص ساحة المعركة وإحداثياتها.
يبدو أن الكيان الصهيوني قد دخل في مسار ونقطة لا العودة في مجال إدارة الحرب. فإن دخوله في صراع متصاعد على الجبهة الشمالية مع حزب الله، ومن ناحية أخرى، حجم الإبادة الجماعية التي يمارسها في غزة، هيأت الظروف لجبهة المقاومة للرد والانخراط الأوسع في المواجهة.
أمر آخر لا بد من الإشارة اليه، أخطأ الكيان حين استهدف رموز المقاومة؛ لا سيما اغتيال الشهيد الدكتور إسماعيل هنية، وسيد شهداء الأمة، القائد العربي والاسلامي المؤمن والشجاع، السيد حسن نصر الله، والشهيد القائد يحيى السنوار، والشهيد السيد هاشم صفي الدين، والقياديين الشهداء فؤاد شكر وابراهيم عقيل، مروراً بالعمل المجنون عبر تفجير أجهزة النداء (البيحر). كان هدف الكيان هو إجبار المقاومة على التراجع والاستسلام له، لكن هذا الهدف لم يتحقق.
ورغم أن الهيكل التنظيمي والقيادي للمقاومة اعتمد على هذه الشخصيات بشكل كبير، وهي رموز لا يمكن تعويضها، إلا أن المقاومة ارتقت إلى مستوى بنية متكاملة لها ارتباطات عميقة مع المجتمع؛ ولذلك فإن إخراج المقاومة من جغرافية الشرق الأوسط غير ممكن؛ كما أننا رأينا، بعد شهادة السيد نصر الله، ازدياد عمق استهداف حزب الله للأراضي المحتلة واتساع الهجمات. ونشهد ازدياداً مضطرداً في عدد ونوع العمليات العسكرية للمقاومة. ووفق البيانات الرسمية للإعلام الحربي، فقد بلغ عدد العمليات في أحد الايام 50 عملية استهدفت جيش الاحتلال على الحدود وعمق الكيان الغاصب. وارتفع عدد القتلى والجرحى من الجنود حتى لامس ال1000 إصابة حتى الساعة في شهر واحد، كما ان الأضرار التي لحقت بالكيان جعلت الأوضاع صعبة للغاية على هذا النظام، ولم يعد قادراً على مواجهة جبهة المقاومة بمفرده؛ إلا بدعم غربي واضح وجلي وتحديداً من الولايات المتحدة الأمريكية. ولولا الدعم المالي والعسكري والإعلامي والسياسي الغربي اللامحدود للنظام الصهيوني لما استمر يوماً واحداً في القتال والمواجهة مع جبهة المقاومة.
كاتب وباحث سياسي من إيران.
عضو الهيئة الأكاديمية لمعهد الإمام الخميني (رض) والثورة الإسلامية.