الثلاثاء 12 آب , 2025 04:01

نتنياهو… إلى متى تحكمك الأكاذيب وتفضحك الوقائع؟

مؤتمر صحفي لبنيامين نتنياهو

في الخطاب السياسي "الإسرائيلي"، يتكرّر مشهد إنكار الجرائم بحق الفلسطينيين، وكأن الأمر جزء من تقليد راسخ في صناعة الرواية الرسمية. آخر فصول هذا الإنكار جاء على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي وقف أمام الإعلام العالمي لينفي وقوع إبادة أو مجاعة في غزة، ويحمّل حركة حماس كامل المسؤولية عمّا يحدث، متهمًا وسائل الإعلام الدولية بنشر "صور مزيفة". لكن الواقع على الأرض، والمشاهد التي تتدفق من القطاع المحاصر، تقوّض هذه الرواية وتكشف هشاشتها، بل وتفضح ما تحاول "إسرائيل" إخفاءه.

هذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها نتنياهو إلى استراتيجية "الإنكار والهجوم المضاد". فعلى مدى سنوات حكمه، دأب على تحويل كل انتقاد خارجي أو داخلي إلى مؤامرة ضد "إسرائيل"، مُعيدًا إنتاج خطاب دفاعي يخلط بين الأمن القومي والدعاية السياسية، وبين حماية الدولة وحماية موقعه الشخصي في السلطة. لكن الجديد هذه المرة أن العالم -بما فيه دوائر غربية كانت تاريخيًا متعاطفة مع "إسرائيل"- بات يرى التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي والحقائق الميدانية.

لغة الإنكار كأداة سياسية

الإنكار في حالة نتنياهو ليس مجرد رد فعل، بل هو استراتيجية مدروسة. "وفق منطق الدعاية"، فإن الهدف من هذا الخطاب ليس إقناع المعارضين، بل تثبيت قناعة القاعدة المؤيدة وإرباك الجمهور المتردد. نتنياهو يعلم أن إنكار المجاعة والإبادة في غزة لن يغيّر شيئًا في عيون ضحايا الحرب أو الرأي العام العالمي، لكنه يراهن على أن يكبح موجة الغضب داخل المجتمع "الإسرائيلي" وبين داعميه في الغرب، خصوصًا في الولايات المتحدة، حيث يلعب الإعلام الموجّه دورًا في إعادة صياغة السردية لصالح "إسرائيل".

وفي هذا السياق، يصبح الهجوم على وسائل الإعلام العالمية -ومن بينها نيويورك تايمز- جزءًا من مسرحية دفاعية أوسع: إذا فشلت في تفنيد الوقائع، فهاجم مصدرها. وإذا كانت الصور صادمة، فقل إنها مزيفة.

اغتيال الحقيقة… حرفيًا

لكن التناقض بين الخطاب والفعل بلغ ذروته مع اغتيال الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع، مراسلي قناة الجزيرة، بعد ساعات من خطاب نتنياهو الذي دعا فيه إلى دخول صحفيين عالميين إلى غزة، مع تحفظه على "ضمان سلامتهم". هذا الحدث يختصر المفارقة القاتلة في السياسة "الإسرائيلية": دعوة شكلية للشفافية تتزامن مع إعدام من ينقل الحقيقة.

"الجيش الإسرائيلي" اعترف بمسؤوليته عن اغتيال الصحفيين، في خطوة تُظهر أن تل أبيب لم تعد معنية حتى بالمحافظة على قشرة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" التي روّجت لها لعقود. وكما يشرح إيمانويل تود في قراءاته للصراعات المعاصرة، فإن استهداف الإعلام ليس مجرد تجاوز ميداني، بل هو تعبير عن أزمة داخلية في بنية السلطة: عندما تفقد النخب القدرة على السيطرة على السردية عبر الوسائل التقليدية، تلجأ إلى القمع العاري.

من إنكار الجريمة إلى قلب المسؤولية

نتنياهو لم يكتفِ بإنكار وقوع مجاعة أو إبادة، بل سعى إلى قلب المسؤولية، متهمًا حماس بسرقة المساعدات، ومتهِمًا الأمم المتحدة برفض توزيعها. هذه الرواية تتجاهل حقائق موثقة من منظمات دولية، تؤكد أن "إسرائيل" تتحكم في المعابر وتمنع دخول المساعدات بكميات كافية، وأنها تُسقِط بعضها في مناطق خطرة أو في البحر، ما أدى إلى استشهاد مدنيين حاولوا الوصول إليها.

هذا النمط من قلب الحقائق ليس جديدًا في السياسة "الإسرائيلية"، لكنه في هذه الحرب وصل إلى مستوى فجّ، لأن الوقائع لم تعد تأتي فقط من مصادر فلسطينية أو عربية، بل من تقارير وكالات إغاثة عالمية وصور بثّتها وسائل إعلام غربية. وهنا تكمن المعضلة: كلما اتسع نطاق التوثيق، ازداد الإنكار شراسة، لأنه لم يعد إنكارًا للآخرين فحسب، بل محاولة لمحو أثر الجريمة من السجل التاريخي.

السياق الغربي وتراجع الحماية السياسية

جزء من حدة الخطاب "الإسرائيلي" اليوم يمكن تفسيره بتغيّر المزاج الغربي تجاه الحرب على غزة. موجة الاحتجاجات في العواصم الأوروبية والأمريكية، وتنامي الضغط الشعبي على الحكومات، بدأت تُربك حسابات نتنياهو، الذي فقد بعض الدعم السياسي التقليدي. حتى المستشار الألماني فريدريش ميرتس -الذي كان متعاطفًا معه- علّق مبيعات أسلحة يمكن استخدامها في غزة، في خطوة رمزية لكنها مؤثرة في المشهد السياسي الأوروبي.

من منظور تود، هذا التحول يعكس أزمة أعمق في البنية الغربية التي لطالما قدّمت "إسرائيل" كحليف استراتيجي لا غنى عنه. تراجع القبول الشعبي لجرائم الحرب يضع الحكومات الغربية في موقف حرج، ويكشف هشاشة المنظومة الدعائية التي صمدت لعقود.

الحرب على الصحافة… كجزء من الحرب على الذاكرة

اغتيال الشريف وقريقع، وقتل أكثر من 260 صحفيًا فلسطينيًا منذ بدء الحرب، ليس استثناءً بل سياسة ممنهجة. "إسرائيل" تدرك أن الصورة قادرة على كسر الحصار الروائي الذي تفرضه على غزة، وأن التوثيق الحي لضحايا المجاعة والدمار يقوّض خطابها أمام العالم. لذلك، تعمل على إخماد هذه الأصوات، سواء بالقتل المباشر أو بإغلاق مكاتب وسائل الإعلام أو منع دخول الصحفيين الدوليين.

لطالما أشارنا إلى أن التحكم في المعلومات أهم من التحكم في السلاح، لأن الرواية هي ما يمنح الحرب شرعيتها أو يسحبها. وفي الحالة "الإسرائيلية"، يبدو أن فقدان السيطرة على الصورة يدفع نحو تصعيد استهداف الإعلام، في محاولة يائسة لإعادة احتكار الحقيقة.

الأزمة الداخلية في "إسرائيل"… حين ينكشف القائد

داخليًا، يواجه نتنياهو أزمة غير مسبوقة. شعبيته في أدنى مستوياتها، الاحتجاجات تتواصل، جزء من الجيش يعارضه، ورئيس الأركان نفسه على خلاف معه. حتى داخل المعسكر اليميني، هناك من يرى أن سياساته تقود إلى مأزق استراتيجي. ومع ذلك، يصر على "إكمال المهمة"، وهي مهمة يرفض تحديد إطارها الزمني بوضوح، لكنها -وفق الخطة التي أقرها الكابينت- قد تمتد لعامين.

هذا الإصرار، رغم فشل العمليات السابقة ورغم الضغوط الدولية، يعكس ما يسميه تود "هوس السلطة" الذي يدفع القادة إلى اتخاذ قرارات مدمرة حفاظًا على موقعهم، حتى ولو على أنقاض المجتمع والدولة.

حين تسقط الأكاذيب أمام صمود الضحايا

لغة الإنكار التي يستخدمها نتنياهو اليوم ليست علامة قوة، بل مؤشر ضعف. فكلما ازداد توثيق الجرائم في غزة، ازداد اضطراره لإنكارها. وكلما اتسعت الفجوة بين خطابه ووقائع الأرض، تآكلت مصداقيته حتى بين بعض داعميه التقليديين.

لكن الخطر أن هذه اللغة ليست مجرد مشكلة أخلاقية أو سياسية، بل هي غطاء لاستمرار جرائم حرب بحق شعب محاصر، وتجويعه، وحرمانه من حقه في الحياة. وفي النهاية، كما علمتنا تجارب التاريخ، قد ينجح القادة في التلاعب بالروايات لفترة، لكن الصور التي تُنقل من غزة اليوم ستبقى في ذاكرة العالم، لتشهد على أن الحقيقة -مهما حوصرت- أقوى من الكذب، وأن الأكاذيب، مهما طالت، ستسقط أمام وقائع الأرض ودماء الضحايا.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور