تنتظر البيئة الحاضنة للمقاومة اللبنانية أجوبة على اشكاليات كبرى، تراكمت طيلة أيام الحرب. يعود ذلك بالدرجة الأولى لأمرين: الأول أن ما جرى منذ تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي، وما تبعه من تسارع للأحداث كان صعباً على مختلف المستويات وغير مسبوق بتاريخ الصراع. والثاني، أن البيئة التي لم تمنعها علامات الاستفهام الضخمة من تأجيل النقاش إلى ما بعد لملمة الجراح ونفض الغبار ووقف إطلاق النار، وبقيت صامدة بوجه حملات التحريض والتضليل، اعتادت على أن طبيعة العلاقة التي تربطها بقيادة حزب الله هي علاقة شراكة وأخوّة لا تبعية كحال بقية المكونات السياسية في لبنان وغيرها من الدول، والشواهد على ذلك كثيرة.
ولذلك، تدرك قيادة الحزب على أنها مَدينة لهؤلاء بأجوبة شافية تأتي تباعاً كما جرت العادة. في حين نحاول في هذا العرض، الاجابة عن بعض الاشكاليات، التي تندرج ضمن إطار النقاش مع البيئة الحاضنة، التي تدرك فعلاً معنى المقاومة وفلسفة قيامها وتداعيات انكسارها على أمن لبنان ووحدة أراضيه. أما النقاش مع بقية المكونات في الداخل، الذين انتقلوا خلال الحرب من مرحلة التشكيك بفعالية المقاومة إلى المطالبين بالقضاء عليها ولم يفوتوا فرصة للتآمر والغدر والاستغلال، فلا جدوى منه. والبيئة الحاضنة للمقاومة، من كل الطوائف والمرجعيات السياسية، والتي دفعت أثماناً باهظاً عن لبنان، كل لبنان، ليست بموقع الدفاع عن نفسها وخياراتها التي تثبت كل يوم، أنها صائبة وسيادية. وعلى الرغم من أن القيادة السياسية لحزب الله منفتحة على الحوار كما تُبدي دوماً، وفقاً لمتطلبات المرحلة والشراكة والعمل السياسي، وهو جهد يمكن أن يقوم به من اعتاد على "الصبر". إلا أن البيئة بكل ما تعنيه الكلمة من العوائل والشباب والشابات الذين لم ينتهوا بعد من تشييع شهدائهم، وترميم بيوتهم، ولملمة جراحهم، بينما يحافظ "أبناء الوطن الواحد" على روتين حياتهم اليومي بفضل معادلات الردع -ولو أنكروا ذلك- غير معنية بتبرير ولاءاتها أو خياراتها السياسية أو الاجابة عن أي من أسئلة "الطرف الآخر" التي تأتي من خلفية "فضولية" أو اتهامية أو استنكارية تشكيكية.
الاشكالية: خسارة المقاومة للداخل اللبناني بسبب فشلها بحماية لبنان
على الرغم من الحملة الاعلامية التحريضية والواسعة بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006، والتي ركزت على هذه الاشكالية أيضاً، إلا أن المجتمع اللبناني بمختلف أطيافه وطوائفه عاد واحتضن المقاومة والتف حولها مع بدء الحرب التكفيرية الارهابية على سوريا، وتزايد الخشية من وصول الارهابيين إلى العمق اللبناني. الأمر نفسه يتكرر اليوم، مع سيطرة الجماعات المسلحة على سوريا وتزايد احتمالية عودة المسلحين إلى الحدود. وهذا يعني الايمان بجدوائية المقاومة، بغض النظر عما يقولون على وسائل التواصل الاجتماعي والرغبة في التماشي مع "الترند".
الاشكالية: فشل استعادة قوة الردع للبنان حتى بعد تحقيق النصر
من المبكر جداً الحديث عن "مرحلة ما بعد الحرب"، واذا كانت المقاومة استطاعت استعادة الردع بالشكل الذي كانت عليه. اذ أن معادلات الردع منذ عام 2006 حتى عام 2024، لم تتبين بعد شهر من وقف إطلاق النار حينها، بل احتاج الأمر لسنوات عدة، راكمت فيها المقاومة هذه المعادلات، اذ كان لكل فعل عدائي رد فعل دفاعي، أنتج معادلات ردع. وهذا ما يمكن استنتاجه بسهولة من متابعة خطابات الأمين العام لحزب الله شهيد الأمة السيد حسن نصرالله. فمعادلة تل أبيب مقابل الضاحية الجنوبية لبيروت لم يعلن عنها عشية وقف إطلاق النار في حرب تموز، بل بعد 3 سنوات في 14 آب عام 2009.
الاشكالية: الحرب ليست حرب لبنان وهي بلا هدف مشروع
بعد ساعات على تنفيذ المقاومة الفلسطينية لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر عام 2023، اتهم كبار المسؤولين الاسرائيليين حزب الله بالمشاركة في التخطيط والدعم والتأييد. على الرغم من أن الحزب، كما بقية مكونات المحور، أكد على أنه لم يكن على علم مسبق بالعملية، لم يخف نتنياهو رغبته بشن حرب على حزب الله و"تدفيعه الثمن"، لكن الضربة الأقوى في تاريخه التي تلقاها صبيحة ذلك اليوم، منعته من شن هجوم فوري وفتح جبهتين في آن. وهو بالتالي، لم يكن يبحث عن ذريعة، بل ينتظر التوقيت المناسب. ولهذا فإن فتح الحزب لجبهة الاسناد، سلبت من نتنياهو عنصر المباغتة، ولم تكن سبباً في شن الحرب. وللمفارقة، فإن كيان الاحتلال أعلن الحرب على سوريا ومستمر باحتلال أراضيها وتدمير قدراتها العسكرية، على الرغم من أنها لم تفتح جبهة اسناد، ولم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل. كما أن الاحتلال اعترف بأن تفخيخ أجهزة البيجر واللاسكي نُفذ قبل عدة سنوات، تحضيراً للحظة المناسبة.
الاشكالية: المقاومة مخترقة واغتيال القادة هو بسبب خطأ داخلي كبير
كأي تنظيم أو كيان أو دولة، قد يكون الحزب تعرض للإختراق البشري كالعملاء، وهذا عمل أجهزة المخابرات على امتداد دول العالم، ولا يمكن أن نجد دولة إلا وتعرضت لمثل هذه الأفخاخ -ونعطي الدولة مثلاً لأنها الأكثر قوة وقدرة كما يُفترض أن تكون- فالولايات المتحدة عند كل استحقاق انتخابي على سبيل المثال لا الحصر، تتهم تارة روسيا وتارة أخرى إيران او كوريا الشمالية بالتدخل بانتخاباتها، كما يتم الاعلان باستمرار عن عملاء في روسيا وإسرائيل وغيرهم.
من ناحية أخرى، وللموضوعية، أن التفوق التكنولوجي الهائل لعب دوراً أيضاً، في تحديد أماكن القادة واغتيالهم. وهذا بديهي بوجود الدعم العسكري والتكنولوجي العالمي لكيان الاحتلال. لكن الأهم من هذه النقطة، كيف تعاملت المقاومة مع هذا الخرق؟ وهل أضعف من قوتها ومنعها من تحقيق النصر؟
لا شك أن الحزب أنهى جزءاً هاماً وكبيراً من عملية الترميم، حيث أكد الأمين العام الشيخ نعيم قاسم أن لا شواغر في جسم الحزب التنظيمي. كما أن الانجاز العظيم والصمود الاسطوري في الخيام، الذي منع المقاومون خلاله الجيش الاسرائيلي من احتلال الجنوب، جاء بعد اغتيال القادة واحداث الخرق، ليس قبله.
قد تكون الأسئلة التي شغلت بال غالبية البيئة -خاصة من جيل الشباب- كثيرة ولن يلبي مقال واحد للاجابة عنها كاملة. لكن الانصاف يقتضي بأن يُأخذ بعين الاعتبار أن حجم ما تعرضت له المقاومة كان أكبر من أن تتحمله جيوشاً نظامية تقف خلفها دولاً. واذ كانت بعض الأخطاء قد ارتكبت أثناء "تحرير الجنوب ودفع الاحتلال" لقصور أو تقصير في مكان ما، نظراً لما تعرض له الجسم التنظيمي، وغياب الدولة وتقصيرها في تحمل الكثير من مسؤولياتها، فإنها مغفورة، على أن يتم نقاشها ومعالجتها للاستفادة من التجربة، وحزب الله أثبت براعته بذلك.
لن تنسى البيئة الحاضنة، أن قادة المقاومة، وأبناء مسؤوليها كانوا على الخطوط الأمامية للجبهة ولم يفروا حاملين أموالاً للحفاظ على مكتسبات شخصية. كما لن تنسى، أن النقاش المفتوح والدائم بين البيئة الحاضنة والمقاومة لن يكون ميداناً ليزرع فيه الفتّانون ألغام التفرقة. ومهما اختلف نوع النقاش وشكله من عتب أو شكوى أو مساءلة، يبقى شأناً داخلياً، لا يُعنى به أولئك المنشغلين باثبات أنهم على حق، حتى لو لم يكونوا كذلك. فالمقاومة هي إرث سماحة السيد الشهيد، كما عهدتموها.
الكاتب: غرفة التحرير