منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شنت إسرائيل عدواناً على قطاع غزة، مدعومة سياسياً وعسكرياً من الولايات المتحدة، تحت عنوان "القضاء الكامل على حماس". أكثر من عام و9أشهر مرّ على تلك الحرب، حُشدت فيه الجبهات وارتكبت الابادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وأُعلنت أهداف ميدانية كبرى، أبرزها "تفكيك قدرات حماس"، قبل أن تعود تل أبيب، برعاية أميركية، إلى مفاوضات غير مباشرة مرة أخرى، ضمن جولة جديدة انطلقت يوم أمس.
هذا النمط لم يعد استثناء، بل بات نهجاً ثابتاً في أداء كلٍّ من واشنطن وتل أبيب في العقدين الأخيرين. تبدأ الحرب بإعلان أهداف عسكرية كبرى، يتبعها ترويج مكثف لانتصارات ميدانية عبر حرب دعائية مفتوحة وممولة بمبالغ ضخمة بهدف التحكم بالسردية، ثم تأتي العودة إلى طاولة التفاوض مع ذات الأطراف التي قيل إنها هُزمت أو تم تفكيك بنيتها.
في قطاع غزة، وبعد شهور من القصف والاجتياح والادعاء بإسقاط "سلطة حماس"، تتجه إسرائيل، بدفع أميركي، نحو مسار تفاوضي علني. وفي الجبهة الشمالية، حيث تروج تل أبيب أنها حققت انتصاراً بتوجيه ضربة قاسية لحزب الله، تعود واشنطن لطاولة التفاوض في محاولة لبلورة صيغة سياسية لم تستطع تل أبيب فرضها عسكرياً. كذلك في إيران، وبعد حرب استمرت 12 يوماً شملت استهداف منشآت نووية ووصلت خلالها الصواريخ الايرانية إلى عمق الكيان، عادت الإدارة الأميركية لتلمّح إلى انفتاحها على نقاش مباشر حول البرنامج النووي، وهو ذاته الذي زُعم أنه "تم تحييده" بضربات يزعم الرئيس الاميركي دونالد ترامب أنها "حققت نجاحاً باهراً".
السؤال هنا ليس حول طبيعة الحرب أو أدواتها، بل حول مغزى هذا التراجع المتكرر من "نصر عسكري مُعلن" إلى تفاوض فعلي مع الطرف المُستهدَف. ماذا يعني أن تفاوض واشنطن وتل أبيب من قالتا انه مُني بالهزيمة؟ ولماذا لا يُفرض واقع جديد بقوة السلاح، طالما أن المعركة قد "حُسمت" كما تروّج البيانات الرسمية؟
الجواب لا يكمن في قصور عسكري بالمعنى التقني، بل في حدود الأداة العسكرية عندما تُستخدم لتحقيق أهداف سياسية في بيئات غير قابلة للكسر أو التطويع. القوة العسكرية، مهما بلغت شدّتها، لا تضمن استقراراً سياسياً ولا تُنتج شرعية بديلة. هذه القاعدة التي باتت راسخة في الفكر الاستراتيجي الأميركي منذ تجربة العراق، عبّر عنها وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول حين قال: "لقد تعلمت الولايات المتحدة، بثمن باهظ في العراق، أن القوة العسكرية ليست دواء شافياً".
هذا الإدراك لم يُترجم إلى سياسات ثابتة. فواشنطن، رغم تحذيرات مراكز صنع القرار من الانخراط في حروب طويلة الأمد، لا تزال تسمح لإسرائيل بمساحات ميدانية واسعة، معوّلة على أن تُستثمر الإنجازات العسكرية لاحقاً في مسار تفاوضي. إلا أن الواقع يُظهر أن أن الأطراف المقابلة، من حماس إلى حزب الله وغيرها، تملك من أوراق الردع والمشروعية الشعبية ما يمنع فرض شروط استسلام أو تسوية مفروضة.
الدعاية الحربية، مهما بلغت فاعليتها، لا تصنع واقعاً تفاوضياً. الباحث رون شليففر، في دراسته عن العراق، أشار إلى أن "الانتصار في الحرب الدعائية لا يعني الانتصار في السياسة"، وهي خلاصة تتكرّر اليوم في غزة ولبنان وإيران. فما يُعلن عنه على المنصات الرسمية والإعلامية، لا يجد طريقه إلى الورقة التفاوضية إلا إذا دُعم بقوة حقيقية، قابلة للصمود، ومتجذّرة في الواقع الأمني والسياسي.
الأمثلة أمامنا متكررة. إسرائيل تروّج لانتصار في غزة، لكنها تفاوض حماس. تصعّد ضد حزب الله، ثم تسعى إلى ترتيب تفاهمات مع وسطاء. تضرب إيران، ثم تطرح العودة إلى الاتفاق النووي.
لم تنتج سياسة "اضرب ثم فاوض" في العقدين الماضيين سوى تسويات هشة، أو تأجيل للصراع، دون حلول جذرية. وحتى في الحالات التي نجحت فيها القوة العسكرية في تحطيم بنى تنظيمية، لم تنجح في شطب البيئة الحاضنة ولا مشروعيتها السياسية، كما حدث مع طالبان التي استعادت السلطة بعد عقدين من الحرب، أو كما يحدث اليوم في غزة ولبنان.
إن الاستمرار في هذه المقاربة -الجمع بين الضربات والدعاية ثم العودة إلى التفاوض- لا يعكس استراتيجية مدروسة بقدر ما يعكس مأزقاً سياسياً بنيوياً. فحين تفشل القوة في فرض الشروط، وحين يكون "العدو" أقرب إلى طرف سياسي واجتماعي متجذّر، فإن كل ضربة تصبح، بمرور الوقت، تمهيداً لتنازل، لا لإملاء، حتى لا يصبح الاستنزاف أمراً واقعاً.