شهد الكيان خلال عام 2024 موجة غير مسبوقة من الهجرة العكسية، حيث كشفت الإحصاءات عن مغادرة 82,700 إسرائيلي، وهو رقم قياسي مقارنة بالسنوات السابقة، مما يعكس حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني التي تفاقمت بعد حرب 7 أكتوبر 2023.
اللافت أن الهجرة لا تقتصر على الأفراد، بل تشمل العائلات الشابة وأصحاب الكفاءات، حيث إن 47.8% من المهاجرين تتراوح أعمارهم بين 20 و45 عاماً، و27% منهم أطفال ومراهقون، مما يعكس هجرة العقول والشباب. وتشير البيانات إلى أن معدلات الهجرة مرتفعة بشكل خاص في المناطق المزدهرة مثل تل أبيب وحيفا والقدس، وهو مؤشر خطير على فقدان "إسرائيل" لرأس المال البشري الأكثر إنتاجية.
أما الأسباب فمتعددة، أبرزها تصاعد التوترات الأمنية، وانعدام الثقة بالحكومة، وارتفاع تكاليف المعيشة، والتعديلات في الجهاز القضائي، ما دفع العديد من الإسرائيليين إلى البحث عن مستقبل أكثر استقراراً خارج الكيان. هذا النزيف الديموغرافي والاقتصادي يهدد بنية إسرائيل الاجتماعية والسياسية، حيث تفقد قطاعات مثل التكنولوجيا والطب والأوساط الأكاديمية كفاءات مؤثرة، مما قد يضعف الاقتصاد، ويزيد من نفوذ التيارات المتطرفة.
وبحسب قوانين وزارة الداخلية الإسرائيلية، قامت دائرة الإحصاء المركزية عام 2022 بتغيير تعريف الهجرة من البلاد، حيث كانت الإقامة المستمرة لمدة عام واحد في الخارج تعتبر هجرة، أما الآن فيعرف الإسرائيلي على أنه "مهاجر" إذا بقي في الخارج لمدة 275 يوماً على الأقل خلال عام من تاريخ مغادرة البلاد.
أسباب الهجرة
قالت مراسلة الشؤون الاجتماعية في صحيفة "هآرتس" لي يارون: "الحرب والتعديلات على الجهاز القضائي وارتفاع تكاليف المعيشة، تدفع المزيد والمزيد من الإسرائيليين إلى السفر للخارج والهجرة".
وأوضحت أن الكثير من الإسرائيليين على استعداد لدفع ثمن الهجرة ومغادرة إسرائيل إذا تجاوزت المنفعة ثمن البقاء في البلاد، قائلة إن "الثمن في إسرائيل بات باهظاً، وسيستمر في الارتفاع، فعندما تدفع سياسات الحكومة الناس خارجًا، سوف يهاجرون في نهاية المطاف".
بحسب مجلة ذا مارك كتب سامي بيريتس: "تتباهى الحكومة الحالية بالإنجازات الأمنية التي تحققت بعد الكارثة المروعة في 7 أكتوبر، ولكن اغتيال حسن نصر الله في بيروت، إسماعيل هنية في طهران، ويحيى السنوار في غزة، ليس جزءًا من الاعتبارات التي تدفع من يقرر مغادرة البلاد. من يختار الرحيل يرى حكومة منشغلة بنفسها، بإضعاف مؤسسات الدولة، بتحويل الميزانيات نحو القطاعات التي تشكلها، بفرض أعباء اقتصادية على الجمهور، بينما تحافظ في الوقت نفسه على وزارات حكومية غير ضرورية وضارة، مما يعزز الشعور بأن الحكومة تحارب مواطنيها - أو على الأقل جزءًا منهم".
وبحسب بيريتس، فإن "المخاوف من مغادرة الأطباء، وخبراء التكنولوجيا، والأكاديميين، وأصحاب المهن الحرة للبلاد قوبلت بنفس الازدراء الذي أبداه وزير الاتصالات شلومو كريعي تجاه الطيارين الذين هددوا بالتوقف عن التطوع إذا تحولت إسرائيل إلى ديكتاتورية، قائلاً: "فليذهبوا إلى الجحيم". من الواضح تماماً أن هذه القضية ستتحول إلى مواجهة أخرى بين من يريدون ديمقراطية ليبرالية هنا، وبين من يسعون إلى انقلاب سياسي وأوتوقراطية قومية-دينية. إنه صراع على هوية الدولة. نجاح الائتلاف الحالي في تنفيذ الانقلاب السياسي سيكون خسارة مزدوجة لإسرائيل وسكانها، حيث ستفقد الأشخاص الذين أثبتوا مساهمتهم في ازدهارها، بينما يستمر ازدياد وانتشار أولئك الذين يقولون: "نموت ولا نتجند".
هجرة الأدمغة
بحسب المعطيات التي عرضت في نقاش حول الهجرة العكسية للمتعلمين من إسرائيل في لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست نقلها ذا ماركر، فإن إسرائيل هي واحدة من أقل الدول جاذبية كوجهة للمتعلمين بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وأن نسبة المتعلمين بين المغادرين لإسرائيل أعلى بكثير من نسبتهم في السكان.
وبحسب تقرير أعده مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست لصالح اللجنة، استناداً إلى معطيات المكتب المركزي للإحصاء، فإن نسبة البالغين في إسرائيل الذين أنهوا حتى عشر سنوات دراسية تبلغ 15%. ومن بين السكان الذين يغادرون إسرائيل، تبلغ نسبتهم 5% فقط. ومع تقدمك في سنوات الدراسة، تتغير الصورة: معدل الخريجين من 13 سنة دراسية أو أكثر في إسرائيل هو 44%، ولكن بين أولئك الذين يغادرون إسرائيل يصل المعدل إلى 54%. وتبلغ نسبة من أكملوا 16 سنة دراسية أو أكثر في إسرائيل 19% فقط، ولكن بين الذين غادروا البلاد ارتفع المعدل بنحو 7 نقاط مئوية إلى 26%.
في هذا الإطار، علّقت نوام ألون، وهي عاملة في مجال التكنولوجيا الفائقة تبلغ من العمر 36 عاماً وتعيش في نيويورك: "إن الاعتبار الرئيسي هنا هو القصة السياسية ـ فبعيداً عن الرواتب المرتفعة، والراحة، والفوائد الاقتصادية، فإنني أخشى على سلامتي الشخصية. وأرى أن الإسرائيليين اعتادوا على هذا الواقع، ولا أريد أن أعتاد عليه. فهذه حياة غير معقولة. ولكن إلى جانب الخوف المباشر، هناك شعور عميق بالإحباط إزاء الافتقار إلى أفق سياسي، واحتمال أن يتغير الوضع ذات يوم. ولا أشعر بوجود ممثلين شعبيين يحاولون بناء البلد الذي أرغب في أن ينعم به أطفالي".
وقالت إريت تويتو، إحدى قادة حركة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل: "نحن نشهد هجرة سلبية على نطاق غير مسبوق، وبعض هؤلاء العمال هم من العاملين في مجال التكنولوجيا الفائقة". "يتطلع أصحاب التكنولوجيا العالية إلى العيش في وطنهم. إنهم أشخاص مسؤولون عن ثلث دخل البلاد، ويخدمون في الاحتياطيات بأعداد أكبر من نسبتهم في السكان. ولكن هناك اتجاه تنازلي في الشركات الناشئة، مما قد يؤدي إلى مغادرة العمال للبلاد".
وبحسب قولها، فإن الضرر الذي لحق بالاستثمارات في الشركات الناشئة الصغيرة والحرب يخلقان ضغوطاً على الشركات لتحويل مركز ثقلها إلى الخارج، مما يؤثر على فرص العمل في الصناعة. وهذا بالتوازي مع عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، والإصلاحات التي تضر بالثقة العامة، والحرب. "لقد نما عدد العاملين في التكنولوجيا الفائقة تقليديًا بنسبة 4% سنوياً، وفي عام 2024 ستنخفض نسبة العاملين في التكنولوجيا الفائقة إلى 9.2% من إجمالي القوى العاملة، بدلاً من الزيادة. وأشارت تويتو إلى أن "هذا يشكل انحرافاً خطيراً عن الأهداف".
الكاتب: غرفة التحرير