في آخر جمعة من شهر رمضان من كل عام، يخرج الملايين حول العالم، لا سيما في الدول الإسلامية، ليحيوا يوم القدس العالمي، تلك المناسبة التي دعا إليها الإمام الخميني كحدث رمزي لتذكير العالم بالمأساة المستمرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. لكن هذا العام، يأتي يوم القدس في سياق مختلف تمامًا، حيث باتت المجازر الصهيونية والإبادة الجماعية في غزة، المدعومة أمريكيًا وأوروبيًا، أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، كما أن الأوهام التي حاولت بعض الأنظمة العربية الترويج لها حول "التعايش السلمي" و"التطبيع" قد تهاوت أمام صمود المقاومة الفلسطينية التي قلبت الطاولة على المشروع الصهيوني في المنطقة.
إعادة تعريف يوم القدس: من شعار إلى استراتيجية مواجهة
في العقود الماضية، تعامل البعض مع يوم القدس على أنه مجرد مناسبة احتجاجية أو حدث رمزي لتسجيل المواقف، لكنه اليوم بات محطة أساسية في معركة الوعي ضد المشروع الصهيوني. فمعركة فلسطين لم تكن يومًا مجرد نزاع إقليمي، بل هي انعكاس لصراع أعمق بين الشعوب المستضعفة وقوى الاستعمار والإمبريالية. إن الكيان الصهيوني لم ينشأ نتيجة "صراع ديني" كما يحاول الإعلام الغربي تصويره، بل هو امتداد لمشاريع استعمارية بدأت منذ قرون، حيث تم زرع كيان عنصري في قلب العالم العربي لمنع أي إمكانية لاستقلال حقيقي، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا، لشعوب المنطقة.
منذ عام 1948، جرى تقديم "إسرائيل" كدولة حديثة متقدمة وسط “بحر من التخلف”، وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا في طليعة من سعى لتثبيت هذا الوهم، لكن أحداث العقود الأخيرة كشفت أن "إسرائيل" ليست إلا كيانًا وظيفيًا، يعتمد بالكامل على الدعم الغربي عسكريًا واقتصاديًا، وليس لها أي مقومات للبقاء دون الحماية الأمريكية. اليوم، نرى هذا الكيان يتوسل استمرار المساعدات العسكرية والمالية من واشنطن، في وقت باتت فيه المقاومة الفلسطينية تصنع أسلحتها وتطور استراتيجياتها الذاتية دون الحاجة لأي دعم خارجي مكافئ لما يحصل عليه الجيش الإسرائيلي.
طوفان الأقصى: لحظة الحقيقة في الصراع
إن عملية “طوفان الأقصى” لم تكن مجرد هجوم عسكري، بل كانت حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع، حيث كشفت حجم الوهم الذي كانت تبنيه "إسرائيل" طوال عقود حول تفوقها الاستخباراتي والعسكري. فإذا كان "الجيش الإسرائيلي" الذي يتفاخر بتكنولوجيا المراقبة والأنظمة الأمنية المتطورة قد عجز عن التصدي لمقاتلين خرجوا بأسلحة خفيفة، فكيف يمكنه مواجهة مقاومة منظمة ذات قدرات متزايدة؟ لقد أثبتت هذه العملية أن الاحتلال الصهيوني ليس إلا “نمرًا من ورق”، كما كان يقول ماو تسي تونغ عن الإمبريالية.
لكن الأهم من ذلك، أن هذه العملية كشفت الغطاء عن التحالف الأمريكي-الإسرائيلي، الذي لم يعد مجرد “علاقة استراتيجية” بل أصبح شراكة مباشرة في القتل والإبادة الجماعية. إن الدعم الأمريكي غير المشروط للعدوان على غزة، والذي شمل إرسال القنابل الذكية والصواريخ الموجهة وتوفير الغطاء الدبلوماسي، يُظهر أن الإدارة الأمريكية ليست مجرد حليف، بل شريك كامل في الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب يوميًا بحق الفلسطينيين.
المقاومة مقابل التطبيع: أي طريق للعرب؟
لقد سقطت كافة الأقنعة التي حاولت الأنظمة العربية المطبعة ارتداءها، فكيف يمكن الحديث عن “سلام” مع كيان يمارس الإبادة الجماعية، ويمنع دخول المساعدات الطبية والغذائية، ويرتكب المجازر بحق الأطفال والنساء؟ لا يوجد اليوم أي تبرير أخلاقي أو سياسي لأي علاقة مع “إسرائيل”، وكل من يدافع عن هذا المسار هو إما جاهل أو متواطئ في الجريمة.
إن ما يسمى بـ”اتفاقيات أبراهام” لم تحقق أي فائدة للعالم العربي، بل كانت مجرد محاولة لتوسيع الهيمنة الإسرائيلية، وتسهيل مشاريع النهب الاقتصادي تحت شعار “التعاون الإقليمي”. ولكن الواقع أثبت أن التطبيع لم يجلب إلا الذل، وأن الدول التي سارت في هذا الاتجاه وجدت نفسها اليوم في موقف حرج، حيث لا يمكنها حتى التنديد بالمجازر التي تُرتكب بحق الفلسطينيين خوفًا من إغضاب واشنطن أو تل أبيب.
نهاية الهيمنة الأمريكية: تحولات النظام العالمي
لأول مرة منذ عقود، بدأ النظام العالمي يشهد تحولًا جذريًا في موازين القوى، فبينما كانت الولايات المتحدة تفرض سياساتها دون منازع، نجد اليوم أن القوى الناشئة مثل الصين وروسيا باتت تتحدى الهيمنة الأمريكية، لا سيما في القضايا الدولية الحساسة. ومن الواضح أن فشل "إسرائيل" في حسم معركتها ضد غزة، على الرغم من كل الدعم الأمريكي، هو مؤشر على بداية نهاية عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة في المنطقة.
إن المواقف التي اتخذتها بعض الدول، مثل جنوب إفريقيا والبرازيل وتركيا، في إدانة العدوان الإسرائيلي، تعكس إدراكًا متزايدًا بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة التي لا تُقاوم، وأن هناك إمكانية حقيقية لإعادة تشكيل النظام العالمي بما يضمن العدالة للشعوب المستضعفة.
ما العمل؟ خطوات لمواجهة المشروع الصهيوني
إن القضية الفلسطينية لم تعد مجرد صراع محلي، بل باتت قضية عالمية تتعلق بكل مناهضي الاستعمار والإمبريالية. ومن هذا المنطلق، فإن المواجهة تتطلب استراتيجيات متعددة الأبعاد:
- تعزيز ثقافة المقاومة: لا يمكن لأي شعب أن ينتصر بدون وعي وإرادة، ولهذا فإن نشر ثقافة المقاومة، سواء عبر الإعلام أو المناهج التعليمية أو الفعاليات الثقافية، هو أحد أهم الأسلحة في هذه المعركة.
- مقاطعة الكيان الصهيوني: يجب أن تتوسع حملات المقاطعة الاقتصادية والثقافية ضد إسرائيل"، فلا يعقل أن تستمر بعض الدول العربية في استيراد منتجات من كيان يمارس التطهير العرقي بحق الفلسطينيين.
- تحقيق استقلال القرار العربي: إن أحد أهم أسباب استمرار الاحتلال الصهيوني هو التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وبالتالي فإن أي تحرر عربي حقيقي يبدأ بفك الارتباط مع السياسة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بفلسطين.
- فضح الدور الأمريكي والأوروبي: لم يعد مقبولًا الحديث عن “حياد” الغرب في القضية الفلسطينية، فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، هي شريك أساسي في كل الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، ويجب أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة.
- تحقيق الوحدة بين قوى المقاومة: لا يمكن الانتصار في هذه المعركة بدون وحدة حقيقية بين كافة الفصائل الفلسطينية وقوى المقاومة في المنطقة، فالتنسيق العسكري والسياسي هو العامل الأهم في إفشال المشاريع الصهيونية.
القدس.. عنوان الصراع الأبدي
إن يوم القدس العالمي ليس مجرد مناسبة رمزية، بل هو محطة مهمة في الصراع المستمر بين المستضعفين وقوى الاستعمار. وما نشهده اليوم من تحولات يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي ليس قدرًا محتومًا، بل هو مشروع استعماري قابل للهزيمة كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
إن المقاومة الفلسطينية، رغم كل التضحيات، أثبتت أنها قادرة على فرض معادلات جديدة، وأن الاحتلال الصهيوني ليس إلا كيانًا مؤقتًا محكومًا بالزوال. والمسألة لم تعد “إذا” بل “متى”، والمطلوب اليوم هو أن تستعد الأمة العربية والإسلامية لهذا اليوم القادم لا محالة.
الكاتب: محمد الأيوبي
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com