لم يكن حضور رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض زيارةً بروتوكولية كما جرت العادة، بل استدعاء مستعجل أقرب إلى التبليغ الرسمي منه إلى اللقاء السياسي. توقيت الزيارة، الذي لم يُعلن عنه إلا قبيل يومين من موعدها، أثار موجة من التساؤلات، سرعان ما أجابت عن عدد منها الزيارة نفسها. اذ أن المحاور التي نوقشت بعيداً عن وسائل الاعلام، هي الأكثر تعقيداً منذ عقود وبالنسبة للجانبين. في حين أن نتنياهو الذي كان يحضر لابداء رأيه وإثارة التحفظات، تماهى هذه المرة مع قرارات ترامب، الذي لم يستشره في كثير منها بحسب الصحف العبرية.
ظهر نتنياهو في لقائه الأخير مع ترامب كمن جرى اقتياده لاجتماع أزمة، لا لقاء زعيمين. بدا وكأنه زيلينسكي جديد، يُبلَّغ بما اتُّخذ من قرارات حول "مصير المنطقة". مصادر سياسية نقلتها "يسرائيل هيوم"، أكدت أن إعلان ترامب عن استئناف المفاوضات مع إيران، لم تكن "إسرائيل" على علم به، وهو ما تفاجأ به نتنياهو والوفد المرافق له.
شكّل الملف الإيراني دوماً عقدة لنتنياهو، ليس فقط أمنية بل شخصية. الرجل بنى سرديته السياسية على التحريض ضد طهران، وراكم رأس ماله الشعبي على تحشيد العالم ضد برنامجها النووي. في أكثر من مناسبة، طالب بتطبيق "النموذج الليبي" مع إيران: تفكيك كامل دون مقابل. هكذا فعل القذافي في 2003، فسلّم مفاتيح البرنامج النووي ووافق على تفكيك جميع المنشآت النووية استجابة لدعوات أميركية بريطانية للتوصل إلى اتفاق شامل، يتم خلاله رفع العقوبات عن البلاد، ووعود أميركية لم تلبث أن انقلبت عليه بعد سنوات، حين انتهى به الأمر مقتولاً في حفرة، بعد حملة جوية قادها الناتو.
وبينما كان نتنياهو ينتظر ساعة الحسم ضد إيران، أتاه ترامب بخبر جلل: "المفاوضات ستُستأنف". لم تكن دعوة للتنسيق، بل إبلاغاً بقرار اتُّخذ. بل إن الرئيس الأميركي أجبره على الالتزام العلني بأي اتفاق سيُبرم، متجاوزاً حتى الموقف الإسرائيلي من الاتفاق السابق (2015)، الذي رفضه نتنياهو معتبراً أنه لا يعنيه.
مصادر خاصة للخنادق: ايران ستستهدف الدول في حال سمحت للأميركيين باستخدام اجوائها
طهران لم تغيّر خطابها. لا تفاوض تحت الابتزاز، ولا اتفاق دون رفع العقوبات. وكحال الجولات السابقة التي عقدت في العراق وعُمان على مدار السنوات الماضية للتوصل إلى اتفاق عام 2015 مع إدارة جو بايدن، ترفض طهران هذه المرة أيضاً مناقشة البرنامج الصاروخي والملفات الاقليمية وعلى رأسها سلاح حزب الله وقرار أنصار الله بالمضي بجبهة الاسناد... وهذا ما يفرض السردية الايرانية على المشهد، والتي تصاغ بمنطق القوة لا الضعف، خاصة وأنها عُمّدت بعمليتي "الوعد الصادق"، وأظهرت قدرتها على كسر الحواجز العسكرية والنفسية، ووضعت القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة تحت مجهر الصواريخ. هذه قواعد أصبحت هدفاً واضحاً لا يحتاج إلى كثير من الذرائع، إن اقتضى الأمر.
وبحسب مصادر خاصة لموقع "الخنادق" فإن "إيران أبلغت المسؤولين السياسيين والعسكريين في الدول الخليجية انها ستستهدف المنشآت العسكرية والحيوية أيضاً في هذه الدول في حال سمحت باستخدام أجوائها للأميركيين والاسرائيليين، وليس فقط استخدام القواعد العسكرية الأميركية في العدوان المحتمل على إيران". ويضيف المصدر بأنه "على رغم تأكيد زعماء هذه الدول عدم سماحها لواشنطن باستخدام قواعدها في بلادهم لشن اعتداء عسكري، إلا أن طهران التي ترى سلطة اليد الأميركية على هؤلاء واحتمالية القيام بذلك، أبلغت المسؤولين الأمنيين المعنيين في هذه الدول أن استخدام الأجواء الخليجية لحركة طائرات معادية أو صواريخ ستعتبره ايران تسهيلاً للعدوان عليها وشراكة به ومبرراً محقاً لاستهداف المنشآت الحيوية داخل هذه الدول، وهو انذار تكرر غير مرة خلال الفترة الأخيرة".
من ناحية أخرى، قد لا تضطر طهران لبذل جهود مضنية لدحض رواية ترامب. اذ أنها تحمل بداخلها مكامن الضعف، وهو ما تستغله وسائل الاعلام والصحافة الأميركية التي يسيطر عليها الديموقراطيون، بعد أن هاجم بايدن مراراً لإجرائه مفاوضات غير مباشرة مع إيران، وها هو الآن يسير في الطريق ذاته، تحت عنوان "مفاوضات غير مباشرة".
اللقاء بين ترامب ونتنياهو جسّد بوضوح مشهد التبعية. ليس فقط في الشكل، بل في المضمون. الصحفي الإسرائيلي أنشيل بفيفير وصف اللقاء بالإذلالي، معتبراً أن نتنياهو جلس كرئيس وزراء لدولة تابعة، لا ندًا. أُبلغ بالمفاوضات، طُلب منه الصمت، ولم يُمنح حتى الحق في مناقشة شروط الصفقة أو ضمانات المصالح الإسرائيلية.
زيارة نتنياهو إلى واشنطن كشفت انكساراً في الخطاب، لا في التحالف فقط. الخطوط الحمراء تتبدد، وتل أبيب باتت تبلّغ بالقرارت الكبرى بدل المشاركة في وضعها. الخطير ليس فقط في ما جرى، بل في ما سيجري: إسرائيل اليوم في موقع التابع، ونتنياهو -مهما حاول أن يستعيد هالته كرجل أمن وسياسة- يظهر يوماً بعد يوم كظل لرجل آخر، يجلس في المكتب البيضاوي، ويُقرّر وحيداً مسارات الحرب والسلام في المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير