الخميس 17 نيسان , 2025 11:09

الاحتلال الوقائي: هكذا تغيرت العقيدة الاسرائيلية بعد 7 أكتوبر

منذ السابع من تشرين الأول 2023، بدا واضحاً أن "عقيدة الجدران" التي بنتها إسرائيل على مدى عقود قد انهارت تحت أقدام المقاتلين الفلسطينيين الذين عبروا السياج المحصن كمَن يعبر مزرعة مهجورة. "طوفان الأقصى" لم يكن فقط عملية مقاومة، بل لحظة انقلاب استراتيجي. أمام صدمة الانهيار الدفاعي، أعادت إسرائيل صياغة أولوياتها الأمنية والعسكرية: لم يعد الاكتفاء بالدفاع عن الداخل عبر الحواجز والرادارات خياراً، بل صار المطلوب -وفق العقل الأمني الجديد- التقدم إلى "الخارج"، إلى أراضي الجوار، لاحتلالها، أو لفرض منطقة عازلة عبرها، أو لتفكيك البيئة المعادية فيها بالكامل. هكذا ولدت عقيدة الاحتلال الوقائي.

تؤمن إسرائيل بمنطق الاحتلال. لكنها منذ انسحابها من غزة عام 2005 ولبنان عام 2000، بنت سياستها الأمنية على الردع عن بعد، عبر الحصار والتكنولوجيا والاستخبارات. الجدران الذكية حول غزة، القبّة الحديدية، الأنظمة الإلكترونية على حدود لبنان، والكاميرات الحرارية في الجولان. لكن كل ذلك أصبح دون جدوى في صباح واحد. لا رادارات رصدت، ولا جدران منعت، ولا استخبارات تنبأت. سقط الردع، فكانت العودة إلى أصل "الغريزة الصهيونية": السيطرة أو الاحتلال.

الحرب على غزة لم تكن فقط ردة فعل عسكرية. لقد اتخذت، كما وصفها نيري زيلبر في مقاله في فايننشال تايمز (ديسمبر عام 2023)، شكل "استعادة للمفهوم القديم للأمن: أن تُبعد الخطر بالتحكم في الأرض التي يأتي منها". هذه ليست عبارة طارئة. إنها تلخيص لعقيدة تبنّاها دافيد بن غوريون نفسه منذ تأسيس الدولة، حين قال: "نحن لا نحمي الدولة بجدار، بل بهجوم مستمر على البيئة المعادية".

في غزة، ما جرى لم يكن حرباً تقليدية. إنه، كما وصفته تقارير الأمم المتحدة، "تطهير مكاني ممنهج". إسرائيل لم ترد فقط على حماس، بل سعت إلى تدمير البنية الاجتماعية والفيزيائية لغزة، بهدف خلق "واقع أمني جديد"، أساسه إفراغ الشريط الحدودي من السكان و"تنظيفه" من أي بنية تسمح بإعادة بناء المقاومة. مصادر استخبارية إسرائيلية، كما نقلت هآرتس (كانون الثاني/ يناير 2024)، أشارت إلى خطط "للسيطرة المؤقتة أو الدائمة على مناطق داخل القطاع" بطول 1-2 كم بعمق، كـ"مناطق أمنية إسرائيلية".

على الجبهة الشمالية، ظهرت العقيدة نفسها ولكن بأسلوب مختلف. لا جيوش تغزو، بل اغتيالات عالية الدقة تضرب من بيروت حتى الهرمل. إسرائيل لا تنتظر هجوماً، بل تبادر إلى تقويض البنية القيادية لحزب الله قبل أن يفتح الجبهة فعلياً.

في الجنوب السوري، تنفذ إسرائيل نموذجاً هجيناً بين الوجود الاستخباراتي والسيطرة الميدانية الصامتة. عبر الغارات الدورية، وعمليات التصفية، والاختراق الاستخباري العميق، أعادت إسرائيل فرض ما أسمته "منطقة حظر نفوذ إيراني" في محيط الجولان، من دون إعلان احتلال، ولكن مع واقع ميداني يعادل الاحتلال. إنها "السيطرة بلا سيادة"، كما يسميها مايكل مان في كتابه Incoherent Empire (2003)، حين يتحدث عن الإمبراطوريات الحديثة التي "تفرض سيطرة عملية على الأراضي من دون رفع أعلام رسمية".

ليست هذه العقيدة جديدة كلياً. هي عودة إلى ما طرحه زئيف جابوتنسكي في ثلاثينيات القرن الماضي حين كتب عن الحاجة إلى بناء "جدار حديدي أمام العرب" قبل التفاوض معهم. لكن هذا الجدار، الذي فُهِم لاحقاً كرمز للتحصين، هو في حقيقته كما فسّره لاحقاً المؤرخ آفي شلايم "ليس جداراً دفاعياً، بل استراتيجية هجومية تفرض الأمر الواقع بالقوة، ثم تنتقل إلى المساومة".

اليوم، بعد فشل الجدران المادية، تعود إسرائيل إلى الجدار المفهومي: الاحتلال كحلّ، لا كمرحلة. الاستيطان في الضفة، المناطق العازلة في غزة، الضربات في لبنان، والاختراق في سوريا، كلها ليست عمليات ردع، بل إعادة رسم للخريطة وفق المصلحة الأمنية الإسرائيلية كما يراها اليمين المتطرف الحاكم.

هذا التحول يفتح الباب أمام واقع إقليمي شديد الخطورة. إسرائيل لا تكتفي بتحييد التهديد، بل تسعى إلى منع إمكان تشكّله أصلاً. وهذا يعني أنها مستعدة لأن تكون في حالة مواجهة دائمة، واحتكاك مباشر، مع شعوب المنطقة، وليس فقط مع منظماتها. إنها لا تريد فقط هدم أنفاق غزة، بل هدم فكرة المقاومة ذاتها.

لكن التاريخ يُعلّم أن الاحتلال لا يصنع الأمن. تجربة إسرائيل في لبنان بين 1982 و2000 انتهت بخروج مذلّ. وكلما توسّعت خارجياً، كلما انكشفت داخلياً. العقيدة الجديدة قد تمنح إسرائيل بعض الوقت، لكن كلفتها الاستراتيجية، الأخلاقية، والديموغرافية، قد تكون أثقل من أن تتحملها حتى منظومة مدججة بالسلاح والدعم الدولي.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور