تقدمت 12 ولاية أميركية، وعلى رأسها نيويورك، بدعوى قضائية ضد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اعتراضاً على قراره بفرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة. الدعوى تمثل محطة جديدة في الصراع المزمن بين السلطة التنفيذية وممثلي الولايات، لكنها هذه المرة تأتي في سياق أكثر تعقيداً، سياسياً واقتصادياً ودستورياً.
الإدارة الأميركية اعتمدت في قرارها على "قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية" الصادر عام 1977، والذي يتيح للرئيس اتخاذ إجراءات اقتصادية واسعة في حال وجود تهديد "غير عادي" للأمن القومي. استخدم ترامب هذا القانون لتبرير فرض الرسوم، معتبراً أن العجز التجاري، والهجرة غير الشرعية، وتدفق المواد المخدرة مثل الفنتانيل، تشكل تهديدات خطيرة تبرر هذا التدخل الاقتصادي الاستثنائي.
لكن حكومات الولايات المعترضة ترى أن هذه الخطوة تمثّل تجاوزاً للصلاحيات الرئاسية وانتهاكاً واضحاً للدستور، لأن سلطة فرض الضرائب وتنظيم التجارة الخارجية تعود حصرياً للكونغرس، وليس للبيت الأبيض. وتؤكد الدعوى أن القانون الذي استند إليه ترامب لا يجيز فرض رسوم عامة وشاملة على جميع الواردات دون مراجعة تشريعية، خصوصاً في ظل غياب تهديد مباشر أو حرب اقتصادية طارئة.
الرسوم الجديدة تسببت في ارتفاع أسعار عدد من السلع المستوردة، الأمر الذي أعاد الضغوط التضخمية إلى الواجهة، بعد أن بدأت الولايات المتحدة تتعافى تدريجياً من آثار أزمة كوفيد وسنوات ارتفاع أسعار الفائدة. الخسائر طالت قطاعات واسعة، من التكنولوجيا إلى السيارات، وصولاً إلى السلع الأساسية التي يعتمد عليها المستهلك الأميركي يومياً.
تضم الولايات المعترضة ولايات ديمقراطية وأخرى جمهورية، ما يعكس أن الانقسام حول القرار ليس حزبياً بحتاً، بل يتعلق ببنية السلطة وتوزيعها داخل النظام الفيدرالي الأميركي. خلف هذا التحرك القانوني، يظهر قلق واضح من تحول الرئاسة إلى جهة تتخذ قرارات مالية وتشريعية دون العودة إلى المؤسسات، وهو ما يراه البعض تهديداً لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه الدستور الأميركي.
من الناحية السياسية، يأتي هذا التحرك القضائي في وقت حرج. يخوض ترامب عامه الأول في ولايته الثانية وسط مناخ داخلي مضطرب، وانقسامات متصاعدة حول قضايا الهجرة، والسياسات البيئية، وتنظيم الشركات الكبرى. في هذا السياق، تسعى إدارته إلى فرض رؤية اقتصادية حادة تضع "أميركا أولاً" كعنوان دائم، حتى لو كان الثمن مزيداً من التوتر مع الحلفاء أو المؤسسات الداخلية.
بالنسبة لترامب، فإن الرسوم الجمركية، ليست مجرد إجراء اقتصادي، بل أداة ضغط وسياسة خارجية، ورسالة داخلية إلى قاعدته الانتخابية التي تطالب بسياسات أكثر حزماً تجاه الصين والمكسيك وأوروبا. في المقابل، ترى المؤسسات التشريعية والولايات المتضررة أن هذه السياسات قصيرة النظر، وستؤدي إلى تقويض الاستقرار الاقتصادي وتوسيع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
القضية أمام المحاكم الفيدرالية مرشحة لأن تستمر لأشهر طويلة، وربما تصل إلى المحكمة العليا، نظراً لطبيعتها الدستورية. القرار النهائي سيحدد مستقبل استخدام قانون الطوارئ الاقتصادية، وقد يضع حدوداً واضحة لصلاحيات الرئاسة في المجال التجاري. أما في حال خسرت الولايات الدعوى، فسيُكرّس سابقة جديدة تسمح للرئيس باتخاذ قرارات مالية كبرى دون موافقة الكونغرس، ما يُضعف دور المؤسسات التشريعية ويعيد تشكيل موازين القوى داخل النظام السياسي الأميركي.
الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها ترامب ليست مجرد إجراء اقتصادي، بل فصل جديد من فصول الصراع بين الرئاسة والمؤسسات. وهي تكشف عن تحدٍّ أكبر يواجه النظام الأميركي اليوم: هل تستطيع المؤسسات التقليدية مقاومة النزعة التنفيذية المتزايدة؟ أم أن موازين القوى ستتحول بشكل دائم نحو البيت الأبيض؟ القرار القضائي المقبل سيكون له ما بعده، ليس فقط على الصعيد القانوني، بل في رسم مستقبل الحكم في الولايات المتحدة.