في توقيت مثير للانتباه، ومع اقتراب الجولة السادسة من مفاوضات الملف النووي الإيراني، وتزايد الضغوط الدولية لإنهاء الحرب على غزة، أقدمت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إقالة مجموعة من مسؤولي مجلس الأمن القومي، بينهم شخصيات بارزة مثل إيريك تريجر، المدير الأول لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وميراف سيرين، مديرة ملفي إسرائيل وإيران.
هذه الخطوة، لم تُرفق بأي توضيحات رسمية، لكن توقيتها ومضمونها يشيان بأنها ليست مجرد تغييرات روتينية، بل تعكس تحولات أعمق في تركيبة صنع القرار داخل البيت الأبيض، وتحديدا في ما يتعلّق بالشرق الأوسط، الذي يشهد مرحلة حرجة على الصعيدين السياسي والأمني.
تأتي الإقالات في لحظة دقيقة من التفاعل الإقليمي والدولي. فقد صرّح ترامب مطلع الأسبوع بأن المحادثات النووية مع إيران "أحرزت تقدماً حقيقياً"، مشيراً إلى أن هناك "أخباراً جيدة" سيتم الإعلان عنها قريباً. هذه التصريحات جاءت عقب جولة في العاصمة الايطالية روما شهدت نقاشات مكثفة بين الجانبين الأميركي والإيراني، تركزت على قضايا محورية مثل تخصيب اليورانيوم ومستقبل العقوبات.
بالتوازي، يبرز ملف الحرب على غزة كعامل ضغط إضافي على الإدارة الأميركية. فالولايات المتحدة، رغم تحالفها التاريخي مع إسرائيل، تتعرض لانتقادات متزايدة داخلياً ودولياً بسبب دعمها غير المشروط، وهو ما دفع ترامب إلى التصريح بأنه تحدث مع إسرائيل بهدف "وقف الوضع برمّته في أسرع وقت ممكن"، في تحول نادر النبرة من رئيس معروف بتبنّيه غير المشروط للمواقف الإسرائيلية.
هذه الديناميات تشير إلى محاولة أميركية لإعادة التموضع، سواء بإحداث اختراق في الملف الإيراني أو بتهدئة الساحة الفلسطينية، وفي كلا الحالين تتطلب هذه المقاربة الجديدة تغييرات على مستوى الطاقم التنفيذي، وهو ما يفسر إلى حد بعيد قرار إبعاد شخصيات ارتبطت بمواقف متشددة وغير مرنة في ملفات المنطقة.
إقالة إيريك تريجر تحمل رمزية خاصة. فهو لم يكن مجرد موظف رفيع، بل يُعد من أبرز العقول الموجهة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة. اشتهر بتشدده، وارتبط اسمه بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أحد أهم مراكز الفكر المرتبطة باللوبي الإسرائيلي في واشنطن. تولى تريجر أدواراً حساسة، منها الإشراف على ملفات غزة، إيران، سوريا، والعلاقات مع إسرائيل، وكان يحظى بنفوذ كبير داخل الإدارة.
البديل الحالي هو ستيفن ويتكوف، رجل أعمال وصديق شخصي للرئيس، لا يملك خبرة سياسية تذكر، لكنه يحظى بثقة ترامب. يتولى ويتكوف اليوم ملفات تتطلب خبرة حساسة ودراية بالواقع الإقليمي المتداخل، ما يطرح تساؤلات حول قدرة الفريق الجديد على التعامل بفاعلية مع أزمات المنطقة، خاصة في ظل تسارع التطورات وتعقيدها.
هذه الإقالات لم تكن معزولة عن السياق الداخلي. فقد ترافقت مع تقارير عن خلافات متزايدة داخل الإدارة، لا سيما حول توجه ترامب نحو اتفاق نووي جديد مع إيران، وهو توجه لا يحظى بإجماع داخل المؤسسة الأميركية، تحديداً من قبل أطراف محسوبة على التيار المحافظ التقليدي أو المرتبطة بمصالح إسرائيل.
كما أن وزير الخارجية ماركو روبيو، المعروف بخطابه الصارم تجاه إيران، لا يمتلك خبرة تنفيذية واسعة، ما يضيف إلى الانطباع بأن ترامب يعيد تشكيل فريقه الخارجي على أسس ولاء شخصي وتنفيذ مباشر.
هذا التحرك يعكس أيضاً رغبة في تقليص نفوذ المؤسسات التقليدية مثل مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، وأجهزة الاستخبارات، لصالح دائرة ضيقة من المقرّبين، وهو ما ينذر بنمط حُكم أكثر مركزية واندفاعاً.
في ظل عدم وجود تفسير رسمي للإقالات، وارتباطها المباشر بملفات محورية تشهد تحركات غير مسبوقة، يبدو أن ترامب يعيد تشكيل فريقه الخارجي وفقاً لأولويات جديدة: السعي إلى اتفاق مع إيران، إنهاء الحرب في غزة، وتقليص نفوذ المؤسسات ذات العلاقات القديمة بالمؤسسة الإسرائيلية.
لكن هذا التحول لا يخلو من مخاطر، في ضوء هشاشة التوازنات الإقليمية، وانعدام الخبرة لدى بعض الوجوه الجديدة التي تتولى إدارة الملفات الأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط. وبين رغبة في الإنجاز السريع وتصفية الحسابات الداخلية، تبدو السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة على عتبة مرحلة جديدة من الاندفاع والتفرد برأي الرئيس، قد تكون نتائجها أكثر تقلباً مما تبدو عليه اليوم.