مشهد مستقبلي مقلق لمصير السياسة الأمريكية مع نهاية ولاية ترامب الثانية في 2029، حيث ستكون مهمة خلفه في استعادة موقع الولايات المتحدة العالمي شبه مستحيلة. فالرئيس الذي أعاد النظر في العقيدة الدولية الأمريكية لم يتوقف عند حدود الانسحاب من بعض الاتفاقات، بل شرع في تفكيك منظومة القيادة الأمريكية بشكل ممنهج وفق مقال نُشر في "ذا ناشيونال انترست" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني، أثار فيه الكاتب هذا الطرح وربطه بعدة عوامل منها تقويض الدور التنموي للولايات المتحدة من خلال حلّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "يو اس ايد"، وخفض ميزانية وزارة الخارجية بنسبة 15%، مع إغلاق مكاتب البعثات الدبلوماسية في إفريقيا والعالم النامي. امتد هذا التفكيك ليشمل البنية التعددية التي ساهمت واشنطن في تأسيسها، من خلال الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وتقليص تمويل وكالات الأمم المتحدة، وتدمير أُسس النظام التجاري العالمي. ولم تسلم البيئة والعلوم من هذا النهج، إذ تم وقف برامج المناخ، وجمد أبحاث الوكالات العلمية الكبرى مثل ناسا وهو ما يهدد مستقبل الابتكار والنمو الاقتصادي الأمريكي لعقود مقبلة. ورغم هذا الانكفاء الشامل، فإن واشنطن حافظت على إنفاقها العسكري، بل عززته، ما يكرّس معادلة غير متوازنة: هيمنة عسكرية يقابلها تآكل اقتصادي وبيئي ودبلوماسي. وقد فرض ترامب رسوماً جمركية عالية حتى على الحلفاء، وألمح إلى احتمال انسحاب واشنطن من مؤسسات مالية دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في خطوة تهدد استقرار الدولار والنظام المالي العالمي. كما أوقف دعم التكنولوجيا الخضراء، مانحاً الصين فرصة التفوق في مجالات الطاقة النظيفة والمركبات الكهربائية. كل ذلك يحدث في وقت تتسارع فيه المتغيرات العالمية. أوروبا باتت تبحث عن بناء دفاع مستقل، والصين تملأ الفراغ في أسواق الطاقة والتكنولوجيا، بينما يتراجع الاقتصاد الأمريكي عن موقعه كمركز عالمي للابتكار والتجارة والاستثمار. الرسالة المركزية التي يبثها هذا السيناريو ليست مجرد تراجع للنفوذ الأمريكي، بل إعادة تعريف للدور الأمريكي نفسه؛ إذ تتحول الولايات المتحدة إلى قوة عسكرية منفصلة عن أدوات التأثير الناعم التي شكّلت أسس هيمنتها منذ الحرب العالمية الثانية. ومع هذه التبدلات الجذرية، يبدو أن أي رئيس قادم في 2029 سيجد صعوبة كبيرة، إن لم تكن استحالة، في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
النص المترجم:
هذا المقال ضمن سلسلة "الخلية الحمراء" التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والتي أُنشئت بعد "هجمات" الحادي عشر من سبتمبر لتجنّب الإخفاقات التحليلية المشابهة مستقبلاً، يسعى هذا المشروع إلى تحدي الافتراضات وسوء الفهم والتفكير الجماعي، بهدف تشجيع مقاربات بديلة للتعامل مع تحديات السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي.
في المئة يوم الأولى من ولايته الثانية، بدأ ترامب تفكيك مؤسسات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي كانت توفّر 40 بالمئة من المساعدات الإنسانية والإغاثة من الكوارث عالمياً. وقد تم دمج ما تبقى من الوكالة ضمن وزارة الخارجية، التي تواجه بدورها تخفيضات ضخمة. وتشير مسودة مذكرة حول إعادة التنظيم المقترحة لوزارة الخارجية إلى أنها "تلغي عملياتها في إفريقيا وتغلق الوكالات التي تعمل على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وقضايا اللاجئين"، كما ستقلّص عدد الموظفين، بمن فيهم الطاقم الدبلوماسي، بنسبة 15%. وإذا وافق الكونغرس، فإن بعض السفارات والبعثات الأمريكية في إفريقيا والعالم النامي ستُغلق. يتم الآن تقليص جميع برامج التغير المناخي والبيئية في مختلف مؤسسات الحكومة الأمريكية، حيث اقتُطعَت مليارات الدولارات من كل شيء: من مياه الشرب، الطاقة النظيفة، والأقمار الصناعية الخاصة بالطقس، إلى الحدائق الوطنية، وإدارة الطوارئ، والعدالة البيئية. ومن المقرر أن تُخفض ميزانية تمويل التكنولوجيا الخضراء والطاقة النظيفة، التي أطلقها الرئيس السابق جو بايدن، في موازنة ترامب المقترحة، بما في ذلك التمويل المخصص للمركبات الكهربائية هذا، إلى جانب الرسوم الجمركية المفروضة على السيارات، سيُمهّد الطريق أمام الصين لتسيطر على السوق العالمية للمركبات الكهربائية، والبطاريات، والطاقة الشمسية. أما بالنسبة للنمو الاقتصادي الأمريكي المستقبلي، وكذلك الابتكار الذي كان المحرك الأساسي له، فستتضرر بفعل تخفيضات ترامب على ميزانية البحث والتطوير الفدرالية، وخصوصاً على ما يُعرف بـ "جواهر التاج" في مجال البحث والابتكار العلمي: المعاهد الوطنية ومؤسسة العلوم الوطنية، ووكالة الفضاء الأمريكية (ناسا). وقد قامت هذه المؤسسات الثلاث بالفعل بطرد العلماء ووقف المشاريع البحثية، وهي مشاريع يصعب إعادة تشغيلها لاحقاً. وتشير دراسة حديثة أجرتها الجامعة الأمريكية إلى أن التخفيضات العميقة في البحث العلمي قد تتسبب بـ "أضرار اقتصادية طويلة الأمد تعادل أزمة ركود كبيرة"، فضلاً عن كونها تهدد بإنهاء الريادة الأمريكية في مجال الرعاية الصحية.
العديد من الجامعات النخبوية، مثل جامعة هارفرد، تواجه احتمال فقدان التمويل الفدرالي للأبحاث العلمية. الركيزة الوحيدة التي ستبقى لقوة الولايات المتحدة العالمية هي تفوقها العسكري الذي لا يُضاهى، وهو ما يجري تعزيزه بشكل إضافي في مقترح موازنة ترامب. بحلول عام 2029، قد تكون أوروبا قد بدأت في بناء منظومة دفاع مستقلة على خلفية تراجع الالتزامات الأمريكية للدفاع عنها ضد روسيا. وتُلمّح الاتهامات التي وجهها وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى أنه، بمجرد الانتهاء من المراجعة التي تستغرق 180 يوماً للمؤسسات الدولية، قد تقلّص الولايات المتحدة التزاماتها أو حتى تنسحب كلياً من هاتين المؤسستين. الخروج من صندوق النقد الدولي سيؤدي إلى أزمة كبرى للدولار، الذي تراجعت مكانته بالفعل نتيجة رسوم ترامب الجمركية من خلال فرضه الرسوم الجمركية، أوضح ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد راغبة في العمل كقوة اقتصادية مهيمنة تقليدية. يريد ترامب فرض تنازلات من الدول الأخرى من جانب واحد، مستندًا إلى شعور مبالغ فيه بقوة وجاذبية السوق الأمريكية. وقدّرت مؤسسة الضرائب غير الحزبية أن "الرسوم الجمركية العامة بنسبة 10% قد تجمع 2.2 تريليون دولار خلال الفترة الممتدة من 2025 إلى 2034"، لكنها "ستخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4 بالمئة. وبسبب إجراءات الرد بالمثل على الرسوم الجمركية، يُتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي أكثر ليصل إلى تراجع قدره 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2035. وتشير دراسة حديثة أجراها معهد بيترسون إلى أن القطاعات الأكثر تضرراً ستكون الزراعة، والتعدين، والصناعة التحويلية، نظراً لاعتمادها الكبير على الطلب الخارجي لمنتجاتها التصديرية.
المصدر: The National Interest
الكاتب: Mathew Burrows and Robert Manning