يُعدّ قرار الاحتلال الإسرائيلي الكامل لقطاع غزة محطة مفصلية في سياق العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني. هذا القرار لم يأتِ فقط كردّ فعل على الواقع الأمني المتدهور في جنوب غزة، بل يُمثّل في جوهره تجليًا لطموح استراتيجي قديم لدى إسرائيل، يهدف إلى فرض واقع سياسي وعسكري جديد، يُنهي وجود حركة حماس، ويكرّس هيمنة دائمة على القطاع تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب".
لكن ما يبدو في ظاهره خطوة حاسمة لتصفية "التهديد الأمني"، يخفي في جوهره أزمة بنيوية أعمق، ويُسلّط الضوء على صراع داخلي حادّ داخل إسرائيل، ليس فقط على مستوى المجتمع، بل أيضًا في قلب المؤسسة العسكرية والسياسية والإعلامية.
فيظهر في دوافع هذا القرار، أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو تسعى إلى كسر حالة الجمود التي تشهدها العمليات العسكرية، بعد فشل مفاوضات تبادل الأسرى، وتعثر الهدنة مع حماس، في ظل قناعة بأن استمرار الوضع الراهن يعني بقاء سيطرة حماس على غزة، وهو ما تعتبره إسرائيل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وبالتالي، لجأت الحكومة إلى المقاربة المتطرّفة: اجتياح بري شامل يُسقط حكم حماس، ويؤسس لواقع جديد.
لكن هذا الخيار، ورغم ما يحمله من طابع هجومي ظاهر، يواجه معارضة داخلية غير مسبوقة. فرئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق، اللواء إيال زامير، وعدد من القيادات العسكرية والأمنية، أبدوا تحفظات عميقة على تنفيذ عملية برية موسعة، معتبرين أنها تحمل مخاطر عالية على الجنود الإسرائيليين، والأهم على حياة الأسرى المحتجزين لدى حماس. هذه القيادات ترى أن العملية قد تؤدي إلى مجازر إنسانية، وتكبّد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، خصوصًا أنه خاض حربًا مستمرة منذ أكثر من 22 شهرًا أرهقته ميدانيًا ومعنويًا.
في موازاة ذلك، تشهد الساحة السياسية في إسرائيل انقسامًا حادًا. فالكابينت الوزاري لا يبدو موحدًا حول هذا القرار، بل يرزح تحت ضغط التيارات اليمينية المتطرفة التي تدفع باتجاه التصعيد، في محاولة لتعزيز مواقعها السياسية، حتى ولو كان ذلك على حساب الأرواح والدماء. ووسط هذا المشهد، تظهر عائلات الأسرى كقوة معارضة شرسة، تتهم الحكومة بتعطيل جهود الوساطة، وإضاعة فرص التوصل إلى اتفاقات كانت قريبة من التنفيذ.
ولا تقتصر الانقسامات على المستويات العسكرية والسياسية، بل تمتد إلى الإعلام الإسرائيلي نفسه، الذي يُظهر بوضوح حالة التمزّق الداخلي. فبعض وسائل الإعلام المقربة من نتنياهو تروّج لسردية "الحسم النهائي"، وتشدد على أهمية السيطرة الدائمة على غزة كضمانة لأمن إسرائيل. في المقابل، تسلّط وسائل إعلام أخرى الضوء على الكلفة الإنسانية الفادحة للعملية، وتحذر من الغرق في "مستنقع غزة" مجددًا، وتشير إلى غياب رؤية استراتيجية لما بعد الحرب، ما يثير تساؤلات جدية حول الجدوى الفعلية من هذه المغامرة.
في السياق الدولي، تلعب الولايات المتحدة دورًا أساسيًا في دعم هذا القرار. فواشنطن، ورغم تحفظها الخطابي أحيانًا على التصعيد، منحت إسرائيل ضوءًا أخضرًا غير معلن للمضي في عملياتها ضد حماس، وواصلت تقديم الدعم السياسي والعسكري دون شروط فعلية. بعض التصريحات الأمريكية أوحت بوجود قلق إنساني حيال الوضع في غزة، لكن هذا القلق لم يُترجم إلى ضغوط حقيقية على إسرائيل. بل على العكس، بدت واشنطن حريصة على إبقاء الصراع ضمن حدود غزة، دون أن يتوسع ليطال جبهات أخرى مثل لبنان أو إيران، ما يُظهر أن أولويتها تكمن في إدارة الأزمة، لا إنهائها.
أما عن الأبعاد المستقبلية للقرار، فيبدو أن احتلال غزة لن يكون مجرد عملية عسكرية، بل بداية مرحلة معقدة ومفتوحة على كل الاحتمالات. فحتى لو تمكنت إسرائيل من التقدم ميدانيًا، فإنها ستواجه تحديات جسيمة على صعيد إدارة القطاع، في ظل غياب بديل فلسطيني يمكنه ملء الفراغ الذي قد ينشأ بعد إسقاط حكم حماس. كما أن كلفة الاحتلال، سواء على الصعيد الإنساني أو الأمني، ستكون باهظة، وقد تُعيد إنتاج الصراع بأشكال أكثر عنفًا، وتُشعل الجبهات الإقليمية، خصوصًا إذا تصاعد التوتر في لبنان أو اندلعت مواجهات مع إيران.
وعليه، فإن القرار الإسرائيلي باحتلال غزة لا يمكن اعتباره خطوة مدروسة لتحقيق نصر نهائي، بقدر ما هو انعكاس لأزمة قيادة داخلية، واستخدام للأداة العسكرية كوسيلة للهروب من استحقاقات سياسية داخلية وخارجية. كما أنه يكشف عن إصرار المؤسسة الحاكمة على خوض معركة لا تملك تصورًا واضحًا لنهايتها، في وقت يتآكل فيه الدعم الشعبي، وتتصاعد فيه الضغوط من أهالي الجنود، وتتعمّق فيه الانقسامات.
ختامًا، يُمكن القول إن قرار الاحتلال الكامل للقطاع ليس حلاً للصراع، بل تطور خطير يُنذر بتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، وتعميق الجرح الفلسطيني، وتهديد الأمن الإقليمي، وقد يُشكل نقطة انعطاف جديدة في تاريخ المواجهة، ليس فقط بين إسرائيل وحماس، بل بين المشروع الصهيوني والمقاومة الشعبية في كل المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير