تشهد إسرائيل واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخها السياسي الحديث، حيث تواجه حكومة بنيامين نتنياهو أزمة غير مسبوقة تتجلى في الاحتجاجات الشعبية الواسعة، والانقسامات داخل الائتلاف الحاكم، والتحديات الأمنية والاقتصادية المتزايدة. في قلب هذه العاصفة، يسعى نتنياهو، كما فعل في السابق، إلى المناورة بذكاء للبقاء في السلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب استقرار كيان الاحتلال الداخلي.
في خطوة غير مسبوقة، أقدمت حكومة نتنياهو على تنحية المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف-ميارا، وهي شخصية كانت تعتبر خط الدفاع الأخير عن "استقلالية" القضاء الإسرائيلي. هذه الإقالة لم تكن مجرد إجراء إداري، بل رسالة سياسية واضحة مفادها أن نتنياهو لن يسمح لأي مؤسسة بالدخول في طريقه، خاصةً مع اقتراب احتمال محاكمته في قضايا الفساد التي تلاحقه منذ سنوات.
بالتزامن مع ذلك، شهدت إسرائيل تصعيدًا غير متوقع داخل أجهزتها الأمنية، حيث دخل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في خلاف حاد مع رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، كاد أن يتطور إلى اشتباك جسدي. هذا الخلاف ليس مجرد حادثة عابرة، بل يعكس حجم الانقسامات داخل المؤسسة الأمنية، حيث باتت الأجندات السياسية تتداخل مع القرارات الأمنية المصيرية. إقالة بار، التي طرحها نتنياهو، تسببت في جدل واسع، إذ اعتُبرت محاولة لتقويض استقلالية الأجهزة الأمنية لصالح أجندة سياسية ضيقة.
على وقع هذه التحركات، شهدت تل أبيب والقدس ومدن إسرائيلية أخرى مظاهرات ضخمة شارك فيها عشرات الآلاف من المحتجين. الهتافات لم تقتصر على رفض حكومة نتنياهو، بل امتدت إلى المطالبة بإسقاط النظام الذي سمح له بالبقاء في السلطة رغم تهم الفساد والاتهامات بإدارة الحرب على غزة بطريقة كارثية.
ما يميز هذه الاحتجاجات هو أنها لم تعد مقتصرة على اليسار العلماني، بل امتدت إلى أوساط اليمين التقليدي وحتى بعض الشخصيات العسكرية التي ترى في استمرار حكومة نتنياهو خطرًا على الأمن القومي الإسرائيلي. الأزمة لا تتعلق فقط بسياسات الحكومة، بل بالشعور العام بأن إسرائيل لم تعد تُدار وفق مبادئ "الديمقراطية"، بل وفق حسابات شخصية لرئيس وزراء يسعى إلى الإفلات من المحاكمة بأي ثمن.
على الجانب الاقتصادي، تعاني إسرائيل من أزمة خانقة نتيجة تداعيات الحرب المستمرة. التكلفة الباهظة للعمليات العسكرية، إلى جانب تراجع ثقة المستثمرين وهروب رؤوس الأموال، دفعت الحكومة إلى محاولة تمرير ميزانية تقشفية تتضمن تخفيضات في الخدمات الاجتماعية وزيادة الضرائب، ما أدى إلى تصاعد الغضب الشعبي.
الجيش الإسرائيلي نفسه بدأ يشعر بالضغط، حيث تزايدت حالات التمرد غير المعلنة داخل صفوفه، وارتفعت الأصوات داخل المؤسسة العسكرية بضرورة إعادة تقييم الاستراتيجية الحالية. هذا الوضع يضع نتنياهو في مأزق حقيقي: فمن جهة، يحتاج إلى استمرار العمليات العسكرية لحشد الدعم الداخلي، ومن جهة أخرى، يدرك أن الاستمرار في استنزاف الموارد قد يؤدي إلى تفكك حكومته من الداخل.
في مواجهة هذه العواصف، لجأ نتنياهو إلى أحد أساليبه التقليدية: تفكيك المعارضة من الداخل وإعادة ترتيب تحالفاته. على الرغم من خلافاته مع بن غفير، استطاع رئيس الوزراء إعادته إلى الحكومة لضمان بقاء الأحزاب اليمينية المتطرفة في صفه. كما يسعى إلى إرضاء الأحزاب الدينية من خلال منحها امتيازات اقتصادية وسياسية في الميزانية القادمة.
لكن المشكلة أن هذه التكتيكات التي أنقذته في الماضي قد لا تكون كافية هذه المرة. الانقسامات داخل حزبه "الليكود" باتت أكثر وضوحًا، مع تزايد الدعوات الداخلية لإيجاد بديل لنتنياهو قبل أن يؤدي إلى انهيار الحزب بالكامل. كما أن المعارضة، رغم ضعفها، بدأت تجد أرضية مشتركة بين اليمين التقليدي واليسار لمواجهة خطر استمرار هذه الحكومة.
السيناريوهات المستقبلية تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات. في حال استمرت الاحتجاجات وازداد الضغط الشعبي، قد يجد نتنياهو نفسه مضطرًا إلى تقديم تنازلات كبرى، سواء على المستوى السياسي أو الأمني. في المقابل، إذا تمكن من إعادة ضبط تحالفاته واحتواء الأزمة الاقتصادية، فقد ينجح في تأجيل انهياره إلى ما بعد الانتخابات القادمة، وهو ما يجيده بامتياز.
لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن إسرائيل تمر بمرحلة مفصلية في تاريخها. فإما أن تنجح المنظومة السياسية في إعادة التوازن بين السلطات ومنع تغول الحكومة على القضاء والأمن، أو أن تسير إسرائيل نحو نموذج حكم أقرب إلى الأنظمة السلطوية، حيث يصبح نتنياهو هو صاحب القرار الوحيد في الكيان.
الكاتب: غرفة التحرير