لا يعترف لبنان رسمياً بالكيان الإسرائيلي، وظل على مدى العقود الماضية في حالة عداء معها، خصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 والاحتلال الذي استمر حتى عام2000، واستمرار عدوانه على لبنان في عام 2006 واختراقه لكل اتفاقيات الهدنة في محاولة لقضم الأراضي وسرقة المياه اللبنانية، وعدم التزامه باي شرط من شروط وقف إطلاق النار حتى وصلنا للعدوان الأخير في 2024. وقد عززت المقاومة اللبنانية اتجاه المواجهة والمقاومة لمشاريع العدو وعدم الاعتراف به، مما أدى إلى منع أي شكل من أشكال التواصل الرسمي أو غير الرسمي مع الكيان الإسرائيلي.
يواجه الكيان المؤقت اليوم تحولاً خطيراً في وضعه القانوني الدولي، مع تصاعد التهم بارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في غزة ولبنان. ومع تحرك الادعاء في هذه الجرائم الدولية الخطيرة أمام المحكمة الجنائية الدولية، قد يؤدي هذا الوضع إلى إعادة تعريف "إسرائيل كدولة مارقة وغير شرعية"، مما ستكون له تبعات دبلوماسية، سياسية، واقتصادية ضخمة، ليس فقط على مستوى علاقتها بالدول الأخرى، ولكن أيضًا فيما يتعلق بأي مشروع للتطبيع أو التعاون معها.
وبناءً على الوضع القانوني الحالي لكيان الاحتلال، وخصوصاً مع اتهامه بجرائم الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، فإنه لا يمتلك أي مشروعية قانونية أو أخلاقية لفرض التطبيع على أي دولة، بما في ذلك لبنان. إضافة إلى ذلك فإنّ القانون الدولي لا يمنح دولة متهمة بجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية الحق في إقامة علاقات طبيعية مع الدول الأخرى دون خضوعها للمحاسبة.
وفي هذا الإطار فإنّ لبنان محمي بقوانينه الداخلية (قانون مقاطعة اسرائيل لعام 1955، واتفاق الطائف والدستور اللبناني الذي يشير إلى هوية لبنان العربية والتزامه بالقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، مما يجعل التطبيع يتناقض مع المبادئ الوطنية اللبنانية. إضافة الى قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، فلبنان ليس في حالة سلام رسمي مع إسرائيل، بل في حالة نزاع مستمر، حيث أن إسرائيل تحتل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وتواصل الاعتداءات على السيادة اللبنانية. والتمركز في نقاط تقول إنها استراتيجية على مشارف القرى والبلدات اللبنانية وداخل اراضيه (2024-2025). ووفقا للقانون الدولي، لا يمكن فرض التطبيع على دولة ما، خاصة إذا كانت في نزاع مع الطرف الآخر أو إذا كان الطرف الآخر متهماً بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وإذا قررت بعض القوى الداخلية أو الخارجية فرض التطبيع على لبنان، فيمكن للمعارضة السياسية والقانونية استخدام الوضع القانوني لإسرائيل كدولة متهمة بالإبادة لإسقاط أي اتفاق محتمل.
ما هي العقبات الواقعية حول ملف التطبيع مع الكيان؟
إنّ التطبيع ان حصل مع لبنان، قد يؤدي إلى تصاعد الانقسامات السياسية والطائفية إلى درجة خطيرة قد تهدد الاستقرار الداخلي، وذلك لعدة أسباب جوهرية مرتبطة بتركيبة لبنان السياسية والطائفية، والتجربة التاريخية في التعامل مع إسرائيل. بالإضافة إلى أن غالبية القوى السياسية والحزبية والشعب اللبناني تعارض أي تطبيع مع الكيان الإسرائيلي ولا تعترف بوجوده.
- الانقسام السياسي الحاد حول العلاقة مع الكيان الإسرائيلي: يضمّ لبنان طيفاً واسعاً من الأحزاب والتيارات السياسية التي تتبنى مواقف متباينة تجاه إسرائيل، من الرفض المطلق إلى الانفتاح المشروط. بعض الأحزاب المؤيدة للمقاومة، مثل حزب الله وحلفائه، ترى التطبيع خيانة وطنية وقومية، وقد تعتبره تهديداً مباشراً لمشروعها السياسي والاستراتيجي.
في المقابل، هناك أطراف سياسية أخرى، خاصة في المعسكر "السيادي" أو بعض القوى الليبرالية، قد تنظر إلى التطبيع كفرصة اقتصادية أو سياسية للخروج من العزلة والانهيار الاقتصادي. هذا التباين قد يؤدي إلى صراع داخلي حاد بين القوى الرافضة والمؤيدة للتطبيع، مما يعيد إنتاج الانقسامات السياسية التي ظهرت في مراحل سابقة من تاريخ لبنان.
- البعد الطائفي: تطبيع لبنان ليس كغيره من الدول: فالطابع التعددي والطائفي للبنان يجعل كل قضية سياسية محل انقسام طائفي أيضاً، والتطبيع لن يكون استثناءً. في حين أن بعض الأطراف قد ترى في التطبيع مخرجاً من الأزمات الاقتصادية والسياسية، فإن الطوائف والقوى التي تعتمد على محور المقاومة سترى فيه تهديداً لوجودها ودورها في المعادلة اللبنانية.
على الجانب الآخر، بعض القوى المسيحية قد تكون منفتحة على مناقشة التطبيع، مستندةً إلى تجربة بشير الجميل عام 1982، لكن هذا سيفتح الباب أمام انقسامات داخل المجتمع المسيحي نفسه بين مؤيد ورافض لهذا الطرح. إنّ أي خطوة تطبيعية قد تعيد إحياء الانقسامات الطائفية التي ظهرت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث تباينت المواقف بين مؤيدين للاجتياح ومناهضين له، مما أدى إلى حروب داخلية واصطفافات طائفية جديدة.
- خطر اندلاع أعمال عنف داخلية: إذا حاولت أي حكومة لبنانية التوجه نحو التطبيع، فإن ذلك قد يؤدي إلى ردود فعل عنيفة من القوى الرافضة. وقد تصل الأمور إلى تظاهرات حاشدة، اضطرابات أمنية، وربما اشتباكات داخلية بين الأطراف المتصارعة، خاصة في حال تم فرض التطبيع دون توافق وطني واسع. وقد اثبتت تجربة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أن القضايا المرتبطة بالعلاقة مع إسرائيل كانت دائماً عامل تفجير داخلي، ولا يزال هذا الخطر قائماً اليوم.
- التأثيرات الإقليمية ودور المحاور الخارجية: إنّ لبنان جزء من محور إقليمي يمتد من لبنان الى العراق وإيران واليمن، وهو محور يرفض أي تقارب مع إسرائيل. كما أنّ أي محاولة تطبيع ستعني تحدياً مباشراً لهذا المحور، مما قد يدفع إلى تصعيد المواجهة داخل لبنان، سواء عبر الضغوط السياسية أو حتى عبر تحريك الشارع ضد الحكومة. في المقابل، بعض الدول الخليجية والغربية قد تضغط باتجاه التطبيع، مما قد يؤدي إلى اصطفافات داخلية جديدة بين معسكر مؤيد للغرب والتطبيع، ومعسكر آخر مرتبط بالمقاومة.
إنّ الضغوط على لبنان للمضي في التطبيع مع الكيان المؤقت يأتي ضمن مشروع إقليمي واسع يهدف إلى دمج إسرائيل في المنطقة، وإعادة ترتيب التحالفات السياسية والاقتصادية. في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة، تحاول بعض القوى استغلال الوضع للضغط على لبنان، سواء من خلال المساعدات المالية، مشاريع الغاز، أو تحجيم حزب الله. لكن في المقابل، أي محاولة تطبيع ستواجه رفضاً داخلياً قوياً، وقد تؤدي إلى تصعيد سياسي وأمني يعمّق الانقسامات داخل لبنان. يدرك الكيان الإسرائيلي أن التعددية الطائفية والسياسية في لبنان قد توفر فرصاً لتحقيق أهدافه على المدى الطويل من خلال الضغط السياسي والدبلوماسي لتقليص التهديدات العسكرية (من قوى المقاومة) وتحقيق سلام (بل احتلال مباشر) اقتصادي تدريجي.
لكن يبقى هذا المسار معقداً وغير قابل للتحقيق بسهولة على الرغم من كل المشاريع والمخططات الأمريكية وبعض دول الخليج التي تعمل على فرض شروطها وضغوطها على لبنان من أجل استكمال مشروع محاصرة المقاومة وبيئتها وفرض التطبيع كواقع جديد في لبنان والمنطقة، خاصة بعد سقوط نظام بشار الاسد في سوريا.
إن أي محاولة لفتح مسار نحو التطبيع مع الكيان يتطلب تغييراً جذرياً على المستوى السياسي والقانوني والدستوري وهذا ما يصعب تحقيقه في هذه المرحلة نظراً للتعقيدات المرتبطة بالتنوع الطائفي والمذهبي والفكري والسياسي والاختلافات العميقة حول موضوع العلاقة مع الكيان التي ستؤدي حتماً الى تصادم داخلي عنيف إذا ما استمر المروجين لهذا المسار في استفزاز مكون اساسي في لبنان رافض تماماً للاعتراف حتى بإمكانية المحاولة.
الكاتب: غرفة التحرير