تشكل المحكمة الجنائية الدولية إحدى أبرز أدوات العدالة الدولية في عصر ما بعد الحرب الباردة، إذ أُنشئت بغرض محاسبة مرتكبي أخطر الجرائم الدولية، وعلى رأسها جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية. إلا أن السنوات الأخيرة، وخاصة منذ تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بين عامي 2023 و2024، كشفت عن هشاشة هذه المنظومة القضائية في مواجهة قوى سياسية كبرى تتعامل مع القانون الدولي بازدراء، وتوظفه بما يخدم مصالحها السياسية.
برز هذا الخلل جليًا في الطريقة التي تعامل بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية، مدعومًا بموقف أمريكي صريح يرفض سلطتها، ويطعن في شرعيتها متى مست حلفاءه، وهو موقف متجذر منذ عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي لم يكتفِ بفرض عقوبات على قضاة المحكمة بل أعلنها "فاقدة للشرعية".
وفي موازاة الدعم الأمريكي غير المشروط، وقفت بعض الدول الأوروبية – التي تدّعي الالتزام بالقانون الدولي – في موقف متواطئ ومخزٍ، عبر تجاهلها تنفيذ أمر اعتقال نتنياهو أثناء مروره بأجوائها أو حتى زياراته الرسمية، مكرسة بذلك ازدواجية فاضحة في المعايير، حيث يُطارد مجرمو الحرب من دول الجنوب بلا هوادة، بينما يُحصَّن قادة الاحتلال الإسرائيلي خلف جدران الحماية الغربية.
إن هذه التطورات تضع المحكمة الجنائية الدولية أمام تحدٍ وجودي، يتمثل في صراعها مع "بلطجة دولية" تقودها قوى كبرى، لا تكتفي بإفشال العدالة، بل تحاول تقويضها من أساسها، مما يستدعي مراجعة جذرية لبنية النظام القضائي الدولي، وطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل العدالة الكونية في ظل هذا المناخ من الانتهازية السياسية.
أولًا: مذكرة الاعتقال بحق نتنياهو – سابقة قانونية تواجه حقلًا سياسياً ملغوماً
في نوفمبر 2024، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب على غزة. يُعدّ هذا القرار غير مسبوق من حيث استهدافه لمسؤولين رفيعي المستوى من دولة لم توقع على نظام روما الأساسي، ما يعكس شجاعة قانونية تواجه في المقابل تعقيدات سياسية دولية ضخمة.
ورغم عدم انضمام إسرائيل إلى المحكمة، فإن الولاية القضائية للمحكمة شُرعت استنادًا إلى عضوية فلسطين كدولة طرف في نظام روما منذ 2015، وهو ما يتيح للمحكمة النظر في الجرائم المرتكبة على الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومع ذلك، فإن الجانب القانوني المحكم لهذا القرار لم يمنع الهجمة السياسية ضده، خصوصًا من الولايات المتحدة.
منذ إصدار مذكرات الاعتقال، واجهت المحكمة الجنائية الدولية تحديات في تنفيذ قراراتها. في أبريل 2025، أعلنت المجر نيتها الانسحاب من المحكمة، لتصبح أول دولة في الاتحاد الأوروبي تتخذ هذا القرار، متزامنةً مع زيارة نتنياهو إلى بودابست. برر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان هذه الخطوة بأن المحكمة أصبحت كيانًا سياسيًا بدلاً من كونها هيئة قضائية، مؤكدًا أن بلاده لن تنفذ مذكرة الاعتقال بحق نتنياهو.
رفض نتنياهو وفريقه القانوني مذكرات الاعتقال، معتبرين إياها ذات دوافع سياسية ومعادية لإسرائيل. وصف نتنياهو القرار بأنه "معادٍ للسامية" ومقارنةً بقضية دريفوس الشهيرة، مؤكدًا أن إسرائيل تخوض "أعدل حرب" من جانبه، اعتبر غالانت أن القرار "سابقة خطيرة تشجع الإرهاب"، مشددًا على أن إسرائيل تمارس حقها في الدفاع عن النفس.
ثانيًا: الولايات المتحدة والموقف التاريخي العدائي من المحكمة الجنائية الدولية
لم تكن الولايات المتحدة يومًا داعمًا فعليًا للمحكمة، بل كانت من أبرز معارضيها منذ تأسيسها. وقد بلغ هذا العداء ذروته في عهد دونالد ترامب، حين فرضت إدارته عقوبات على المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا وطاقمها، وهددت بملاحقة كل من يحقق في جرائم أميركية أو إسرائيلية. أما إدارة جو بايدن، فعلى الرغم من تخفيفها للغة التصعيد، فإنها لم تختلف جوهريًا في جوهر الموقف، لا سيما حين يتعلق الأمر بإسرائيل. فقد سارعت واشنطن إلى رفض مذكرة الاعتقال بحق نتنياهو، معتبرةً أنها تفتقد للشرعية وتستهدف حليفًا استراتيجيًا. ويُعَدّ هذا التسييس للعدالة أحد أبرز معوقات عمل المحكمة اليوم، إذ يوجه رسالة مفادها: "العدالة لا تطال الحلفاء".
أشار موقع المفكرة القانونية إلى أنه في 6 شباط 2025، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. وقد طالت العقوبات أفرادًا من المحكمة الجنائية الدولية وأسرهم، بسبب مساهمتهم في تحقيقات المحكمة التي تستهدف مواطنين أميركيين وحلفاء للولايات المتحدة الأميركية مثل إسرائيل، "بشكل غير شرعي ولا أساس له". وفيما لم يعلن بعد عن أسماء الأفراد المستهدفين بالعقوبات لعدم نشر الملحق بالأمر، إلّا أنّ مصادر قالت إنّ أوّلهم سيكون المدعي العام لدى المحكمة كريم خان، وقد شملت العقوبات تجميد الأصول والأملاك في الولايات المتحدة الأميركية ومنع الدخول إليها.
جاءت خطوة ترامب بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن الذي شكره على خطوته الجريئة ضد المحكمة التي نعتها بأنها معادية للسامية. كما جاءت بعد أيام من إفشال جهود يقودها نوّاب جمهوريون لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية في مجلس الشيوخ، احتجاجًا على إصدارها في تشرين الثاني الماضي، أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير الحرب الإسرائيلي السابق يوآف غالانت التي تنسب إليهما ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة، لا سيما استخدام التجويع كوسيلة حرب.
وبالرغم من جميع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين ولبنان، مضى الأمر التنفيذي بوصفها بالدولة الديمقراطية التي لديها جيش يلتزم بصرامة بقوانين الحرب. ووصف قرار ترامب إصدار أوامر الاعتقال بأنه إساءة لاستخدام سلطة المحكمة ويعرّض المواطنين الأميركيين لخطر التوقيف ويشكّل خطرًا غير مسبوق على الأمن القومي الأميركي. واستند قرار ترامب إلى قانون أميركي صادر في العام 2002 لحماية الموظفين الأميركيين من الملاحقة والذي منع التعاون مع المحكمة وأجاز استخدام القوّة لتحرير أي مواطن أميركي موقوف من قبل المحكمة، ما أدّى إلى تسميته ب "قانون غزو لاهاي".
واستند ترامب في قراره إلى أنّ الولايات المتحدّة الأميركية وإسرائيل لم تنضمّا إلى نظام المحكمة، معتبرًا أنّه لا يمكنها ممارسة صلاحياتها على مواطني الدولتين. لكنّ انضمام فلسطين إلى نظام روما في العام 2014 سمح للمحكمة بممارسة صلاحياتها على الجرائم المرتكبة من قبل القادة الإسرائيليين بحقّ الفلسطينيين وعلى الأراضي الفلسطينية. وقد تعرّضت المحكمة وموّظفيها لسلسلة من التهديدات الأميركية والإسرائيلية لردعها من متابعة تحقيقاتها، بقيت معظمها بمنأى عن أي محاسبة لغاية اليوم، ما قد يهدد عملها وقدرتها على إحقاق العدالة للفلسطينيين وغيرهم من ضحايا الجرائم الدولية الخطيرة. وهذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها ترامب المحكمة الجنائية الدولية، إذ سبق لإدارته في ولايته الأولى، أن أصدرت عقوبات على المدعية العامة السابقة للمحكمة فاتو بنسودا وأحد كبار مساعديها، وذلك عقب قبول المحكمة في العام 2021 دراسة اختصاصها في التحقيق في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، وفتح تحقيقات في جرائم الحرب المنسوبة للقوات الأميركية في أفغانستان. وقد شملت هذه العقوبات تجميد الأصول وحظر السفر العائلي ضدّ موّظفين في المحكمة، قبل أن تعود إدارة بايدن لترفع هذه العقوبات.
ردًا على قرار ترامب، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بياناً أدانت فيه العقوبات الأميركية التي تسعى إلى الإضرار بعملها القضائي المستقل والمحايد. وأعلنت وقوفها بحزم إلى جانب موظفيها، متعهدة بمواصلة توفير العدالة والأمل لملايين الأبرياء من ضحايا الفظائع في جميع أنحاء العالم. كما دعت المحكمة الدول ال 125 الموقعة على نظامها والمجتمع الدولي وجميع دول العالم إلى الوقوف متحدين من أجل العدالة وحقوق الإنسان الأساسية. وعبّرت رئيسة المحكمة القاضية توموكو أكاني في بيان عن أسفها بشأن للعقوبات الأميركية، معتبرة أنها تضر باستقلالية المحكمة وحيادها وتحرم الملايين من الضحايا الأبرياء من العدالة والأمل. وأثارت عقوبات ترامب موجة استنكارٍ عالمية. فحذرت 79 دولة عضو في المحكمة من أن العقوبات تزيد من خطر الإفلات من العقاب وتقوض سيادة القانون الدولي، من بينها ألمانيا وهولندا وفرنسا وبريطانيا وكندا وجنوب أفريقيا والأردن وتونس. وتأسّف وزير خارجية هولندا على صدور قرار فرض العقوبات، معتبرًا أنّ دولته لديها مسؤولية هامّة بصفتها دولة مضيفة للمحاكم الدولية، ومؤكّدًا إلتزامها بتعزيز النظام القانوني الدولي وبتطبيق الاتفاقيات الدولية.
كذلك عبرت الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان رافينا شامداسني عن الأسف الشديد تجاه القرار وطالبت بالرجوع عنه. فيما أعربت المفوضية الأوروبية عن أسفها بشأن القرار، مشددة على خطورته في إضعاف جهود المساءلة العالمية. بالمقابل دعمت دول قليلة قرار ترامب بينها إسرائيل، والمجر التي أعلن وزير خارجيتها تفهّمه للقرار، متهما المحكمة بأنها أصبحت أداة سياسية متحيزة وأفقدت النظام القضائي الدولي مصداقيته.
تكمن خطورة العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية في كونها تشكّل مرحلة جديدة في حرب الولايات المتحدّة الأمريكية وإسرائيل المستمرة على القانون الدولي ومؤسساته، ودعمًا لاستمرار إسرائيل في سعيها لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره، وهو ما بات يهدّد استقرار النظام العالمي وبقاءه. وقد تجلّى ذلك في تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة حول التهجير القسري لسكّان غزة إلى دول أخرى، واستيلاء الولايات المتحدة على القطاع، ما أثار ردود فعل حادة، وصلت إلى حد مطالبة المجتمع الدولي بعزل الولايات المتحدة الأميركية.
في الختام، تُبرز التطورات الأخيرة المتعلقة بمذكرات الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو التحديات التي تواجهها العدالة الدولية في تنفيذ قراراتها. تباين مواقف الدول يكشف عن التأثير الكبير للاعتبارات السياسية على تطبيق القانون الدولي، مما يستدعي جهودًا دولية لتعزيز استقلالية وفعالية المؤسسات القضائية الدولية.
إن الاستجابة الدولية المتخاذلة لمذكرة اعتقال نتنياهو لا تضر فقط بمكانة المحكمة الجنائية الدولية، بل تهدد مصداقية النظام القانوني الدولي برمته. فلا يمكن الحديث عن عالم تسوده العدالة بينما تُحمى الدول القوية من المساءلة، وتُترك الشعوب الضحية وحدها في مهب الجريمة.
وإذا لم تتحرك الدول، خصوصًا النامية منها، لإعادة التوازن إلى آليات العدالة الدولية، فإن المحكمة ستتحول تدريجيًا إلى هيئة رمزية عاجزة، تُستخدم أحيانًا لمعاقبة الضعفاء، وتُهمَّش عندما تقترب من "الخطوط الحمراء" للنفوذ العالمي.