حين يُدلي وزير في حكومة دولة تدّعي لنفسها طابعًا ديمقراطيًا وأخلاقيًا بتصريحات علنية يعتبر فيها أن إعادة "الأسرى" ليست من أولويات الحكومة، فإن ما يحدث ليس انزلاقًا عرضيًا في التعبير، ولا رأيًا متطرفًا هامشيًا. بل هو انعكاس أمين لمنظومة أيديولوجية كاملة بدأت تترنّح أمام تناقضاتها الداخلية، وتُظهر، أمام العالم، حقيقة طالما أخفتها خلف ستار الحداثة والشرعية الدولية.
تفكيك اللغة: الحقيقة التي يخشاها الخطاب الرسمي
"لنقل الحقيقة، إعادة أبنائكم ليس الهدف الأكثر أهمية". بهذه الكلمات، مزّق سموتريتش آخر أوراق التوت التي كانت تغطي عورة الرواية الصهيونية أمام جمهورها الداخلي. ما يُروَّج له منذ تأسيس الدولة – أن الجيش لا يترك جنوده خلفه، وأن حياة "الإسرائيلي" مقدسة، وأن الدولة مستعدة لدفع أي ثمن لاستعادتهم – انهار بلحظة، حين صعد صوت الاستيطان على حساب حياة الأفراد.
هذا التصريح، بمستواه اللغوي المجرد، ليس مجرد "خيانة" لعائلات الجنود، بل هو إعلان نهاية أحد أهم أعمدة "الميثاق الاجتماعي" بين المواطن والدولة في "إسرائيل". الدولة التي طالما ادّعت التفوّق الأخلاقي على جيرانها في تعاملها مع “أبنائها”، صارت اليوم تتعامل مع الأسرى كخسائر جانبية، وكأدوات تفاوض ثانوية.
ازدواجية المعايير: من إنسانية "جلعاد شاليط" إلى برودة "جنود اليوم"
عندما أُسر الجندي جلعاد شاليط، شُنّت حملات إعلامية عالمية، وأُطلقت مبادرات دولية وإنسانية، وتحركت الحكومات من واشنطن إلى باريس، حتى أُبرمت صفقة تبادل كبيرة. أما اليوم، فإن الحكومة نفسها، لا تكتفي بعدم السعي للإفراج عن جنودها، بل تتباهى برفضها إبرام صفقة تُنهي الحرب مقابل إعادتهم.
هنا يظهر التناقض الصارخ: هل تحوّلت حياة الجنود إلى عبء سياسي؟ أم أن المسألة تتعلق بالسياق؟ الإجابة تكمن في مكان آخر: في تحوّل بنية الدولة من منظومة أمنية تُعلي شأن الفرد "الإسرائيلي"، إلى مشروع ديني-استيطاني يرى في الفرد أداة لتحقيق هدف "الضم الكامل"، حتى وإن اقتضى ذلك سحق من يُفترض أنهم "جنودها".
خطاب الحرب كغطاء أيديولوجي: "قيامة إسرائيل" أم قيامة التطهير العرقي؟
في خلفية تصريحات سموتريتش ونتنياهو، يلوح خطاب أكثر خطرًا: خطاب "النصر الكامل"، "تدمير حماس"، و"إنهاء التهديد". هذه المصطلحات ليست شعارات أمنية، بل تعبيرات صريحة عن مشروع استعماري لا يزال مستمرًا في القرن الحادي والعشرين، مدعومًا بتحالفات دولية، ويستند إلى منطق تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، سواء بالنزوح القسري أو عبر المجازر أو الحصار.
حين يقول نتنياهو إنه لن يُنهي الحرب قبل تدمير القدرات المدنية والعسكرية لحماس، فهو لا يقدّم سياسة أمنية، بل يضع إعلان نوايا واضح لمحو بنية الحياة الفلسطينية في غزة، وتشتيت السكان، وتحويل القطاع إلى منطقة فارغة خاضعة للاحتلال العسكري المباشر أو غير المباشر.
الصمت الأمريكي: دعم ضمني أم شراكة استراتيجية؟
اللافت في المشهد أن سموتريتش قال بوضوح: “لا يوجد بايدن ولا غالانت ولا هاليفي”، كأنما يُعلن أن لحظته التاريخية قد جاءت، وأن الغطاء السياسي الأميركي حاضر وإنْ تظاهر بالنقد. وهذا بدوره يُعيدنا إلى المفارقة الأخلاقية الأكبر: كيف تسمح واشنطن، التي تُنادي بحقوق الإنسان وتُدين احتلال أوكرانيا، بدعم حليفٍ يتبنّى خطابًا علنيًا يشرّع الاحتلال والتهجير الجماعي؟
هل الصمت الأميركي هو نتيجة مصلحة استراتيجية، أم تعبير عن قناعة أيديولوجية ترى في إسرائيل امتدادًا طبيعيًا لمشروع السيطرة الغربية على الشرق الأوسط؟
تمرد العائلات: صوت الضحية في وجه جلاد الداخل
عائلات الأسرى، في "إسرائيل"، لم تخرج لتقول إن الحكومة مقصّرة فقط، بل اتهمتها بالخيانة، ووصفت تصريحات سموتريتش بـ"العار". هذه ليست ردود فعل عاطفية فقط، بل لحظة نادرة تخرج فيها الضحية من داخل المنظومة، لتواجه صانعي القرار بأسئلتهم الأخلاقية والسياسية.
أن تصف الأمهات حكومتهم بأنها "أغلقت قلبها" و"قررت ترك أبنائنا يموتون"، فهذا يعبّر عن لحظة قطيعة عميقة بين الدولة ومواطنيها، ويطرح سؤالًا جوهريًا: ما جدوى المشروع الصهيوني إذا كان لا يحمي أبناءه؟ ما قيمة "الدولة اليهودية" إذا كانت تمارس على شعبها ما ادّعت يومًا أنها تأسست لمنع تكراره؟
الاستطلاعات: الشعب يرفض الحرب، والحكومة تواصل المجازر
رغم ما يُصدَّر للإعلام من خطاب تعبوي، فإن استطلاعات الرأي تظهر أن أكثر من نصف "الإسرائيليين" يؤيدون صفقة شاملة مع حماس، تُعيد الأسرى وتنهي الحرب. هذا يعني أن الحكومة لم تعد تمثل حتى رأي قاعدتها الشعبية، بل باتت تأتمر بأوامر تكتل ديني-أمني تحكمه حسابات الربح السياسي والأيديولوجي.
لكن الأخطر أن هذه الهوة لا تُنتج مساءلة ديمقراطية، لأن المؤسسة الإسرائيلية، كما يراها سموتريتش، لم تعد تكترث بفكرة الإجماع، بل تسير في اتجاه تفكيك كل رواية وطنية لصالح عقيدة توراتية تشرعن الإبادة وتعتبر "الأسرى" تضحيات ثانوية.
غياب الرادع الأخلاقي: عندما يصبح القتل سياسة رسمية
تصريحات وزير الدفاع يسرائيل كاتس عن "إجبار مئات آلاف الفلسطينيين على النزوح"، والتلويح ببقاء الجيش في المناطق المحتلة باعتبارها "مناطق عازلة"، يذكّرنا بلحظات استعمارية سوداء كنا نظن أن البشرية تجاوزتها. لكن الحقيقة أن السياسة "الإسرائيلية" اليوم لم تعد تُخفي نواياها، بل تفتخر بها.
هنا يتجلى فشل المنظومة الدولية، وعجز القانون الدولي، أمام مشروع سياسي لا يرى في الفلسطيني إنسانًا، ولا يعترف بحق العودة، ولا بالحدود، بل يكرر مأساة النكبة تحت مسميات جديدة.
في المشهد الأخير: من أجل ماذا تستمر الحرب؟
ليست الحرب على غزة مسألة أمنية، بل مشروع تفريغي طويل المدى. تصريحات نتنياهو عن "إعادة رسم الشرق الأوسط"، وتحويل غزة إلى "منطقة لا تهدد إسرائيل أبدًا"، تكشف عن مشروع تقسيمي-استيطاني يتجاوز حماس والأسرى، ويستهدف هوية الأرض وشعبها ومستقبلها السياسي.
في هذا السياق، تصبح تصريحات سموتريتش منطقية تمامًا: إذا كان الهدف هو سحق غزة، فما أهمية إنقاذ جنود سقطوا خلال الطريق؟ إذا كانت الحرب وسيلة لتطهير ديمغرافي، فلماذا نوقفها مقابل صفقة أسرى؟ هكذا يفكر الاستعمار دائمًا: البشر مجرد أرقام، والخرائط هي ما تستحق القتال.
من العار إلى السقوط
إن "العار" الذي تتحدث عنه عائلات الأسرى، ليس سوى مرآة لحقيقة الدولة الصهيونية اليوم: مشروع بلا أخلاق، يُحوّل جنوده إلى قرابين، ويخوض حرب إبادة ضد شعب بأكمله، بينما يحتمي بصمت الغرب ومصالحه.
لكن من يعرف التاريخ، يعرف أن الخطابات الفارغة لا تُنقذ مشروعًا متآكلًا. وأن الخيانة الداخلية، حين تُصبح سياسة رسمية، هي أول مسمار في نعش الكيان الذي لطالما روّج لنفسه باعتباره واحة أخلاقية وسط صحراء من "البرابرة".
اليوم، الصحراء تتحدث، والواحة تحترق…
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com