رغم الصورة النمطية التي لطالما قدمت العلاقة الأميركية–"الإسرائيلية" على أنها “علاقة خاصة”، وربما حتى "مقدسة"، فإن غياب "إسرائيل" عن جولة دونالد ترامب الحالية في الخليج يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذه العلاقة في المرحلة الراهنة، وحدودها السياسية والاقتصادية وحتى الشخصية.
من "أقرب الحلفاء" إلى "شريك مُحرج": التوقيت لا يخدم العلاقة
جاءت جولة ترامب في لحظة حرجة تُحرج كل من يقترب من "إسرائيل" علنًا. فالإبادة الجماعية المستمرة في غزة، والتي راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 53 ألف شهيد، لا تزال تتفاعل دوليًا، وسط اتهامات متزايدة لتل أبيب بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وبينما كانت إدارة بايدن تغرق تدريجيًا في التورط والدفاع السياسي عن "إسرائيل"، يبدو أن ترامب – بعكس المتوقع – قرر أن يؤجل العناق العلني مع نتنياهو إلى توقيت آخر.
ورغم تأييده المعلن لجرائم الحرب، وتصريحه الشهير بأنه "سيرسل لإسرائيل كل ما تحتاجه لإنهاء المهمة"، فإن استمرار الحرب دون نهاية، والبطء الإسرائيلي في إنجاز "الانتصار"، قد يضع ترامب في موقف سياسي محرج، يُفقده أوراقه في ملفات أكثر استراتيجية، مثل إعادة إعمار غزة على الطريقة "الترامبية"، أو تعزيز تحالفاته الاقتصادية في الخليج.
المصالح أولًا: الخليج منصة للصفقات… وليس عبء الحروب
في الجولة الحالية، يُنظر إلى الخليج كمنصة لتكثيف الاستثمارات، وتوسيع حضور منظمة ترامب في الأسواق الإقليمية. بين الذكاء الاصطناعي والطاقة والتعدين، يريد ترامب أن يعيد تعريف وجوده في المنطقة لا كقوة عسكرية فقط، بل كمستثمر عابر للحدود. بالمقابل، تشكّل "إسرائيل" حاليًا عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا يصعب تحويله إلى منصة تجارية، ناهيك عن صعوبة تسويقه إعلاميًا في ظل المجازر اليومية بغزة.
ومع تحوّل الخليج إلى نقطة انطلاق لـ"صفقات القرن"، يصبح من الطبيعي أن يتجنّب ترامب الظهور في سياق حرب مفتوحة لا يعرف كيف تنتهي، ولا كيف يربح منها فعليًا – سياسيًا أو اقتصاديًا.
التوتر مع نتنياهو: اختلافات في الأسلوب والمصالح
وفق تقارير متعددة، ومنها تحقيق لـ”NBC News”، فإن العلاقة بين ترامب ونتنياهو ليست في أفضل حالاتها. فنتنياهو غاضب من إعلان ترامب وقف العمليات العسكرية ضد القوات المسلحة اليمنية، وقلق من فتور الرئيس الأميركي تجاه ضرب إيران. كما لم يستسغ سلوك نتنياهو في تأخير "الحسم في غزة"، ما يُعطّل رؤية ترامب لشرق أوسط جديد تحكمه الصفقات العقارية، لا العمليات العسكرية التي لا تنتهي.
كما تُظهر التسريبات أن ترامب غير مرتاح لمسار التطبيع بين السعودية و"إسرائيل". فهو يفضّل صفقة كبيرة برعاية أميركية واضحة، وليس انخراطًا مشروطًا وخجولًا. ويبدو أن إدارة ترامب بدأت تخلّيها عن شرط التطبيع كمفتاح للدعم الأميركي للبرنامج النووي السعودي – وهو ما يشكّل خيبة أمل كبرى لنتنياهو.
"ريفيرا الشرق الأوسط": حلم ترامب يبدأ من أنقاض غزة… لا من إسرائيل
صرّح ترامب مؤخرًا بأن الولايات المتحدة "ستتولى أمر قطاع غزة، وسنقوم بعمل رائع هناك. سنملكه". هذه الجملة، على قساوتها، تكشف بوضوح عقيدة ترامب تجاه غزة: إنها فرصة تجارية، وليست فقط قضية إنسانية أو سياسية. ولكي يتحقق هذا المشروع – الذي يمكن تسميته بـ"ريفيرا الشرق الأوسط"– لا بد من أن تنتهي الحرب أولًا. ولكن بما أن "إسرائيل" تُبطئ العملية، وتُغرق ترامب في تبعاتها الحقوقية والسياسية، فإن من الأفضل له تجنّب الارتباط المباشر بتل أبيب في هذه المرحلة.
بعبارة أوضح: ترامب لا يعارض إبادة غزة، لكنه يعارض الإبادة البطيئة، لأنها تُفسد عليه مشروعه التالي.
توازنات سياسية داخل أميركا: بين اللوبي الإسرائيلي وقاعدة ترامب الشعبية
يبدو ترامب اليوم أكثر حذرًا في تفاعله مع القضايا "الإسرائيلية"، بسبب تحوّل البيئة السياسية داخل الولايات المتحدة. فبينما لا يزال اللوبي "الإسرائيلي" يحظى بنفوذ واسع، إلا أن أصواتًا داخل القاعدة اليمينية بدأت تتململ من الدعم غير المشروط "لإسرائيل"، خصوصًا في ظل كلفة الحرب على صورة أميركا ومكانتها الدولية.
وبينما يستضيف ترامب رموزًا صهيونية مثل إيتمار بن غفير في منتجع مارالاغو، فهو يحرص على أن تبقى هذه اللقاءات خلف الأبواب، لا على جداول الجولات الرسمية، خشية استغلالها انتخابيًا ضده من خصومه الديمقراطيين أو حتى من داخل الحزب الجمهوري.
"إسرائيل" باقية في الظل: نفوذها حاضر… لكن بعيدًا عن الضوء
رغم كل ما سبق، لا يعني غياب "إسرائيل" عن الزيارة أنها غائبة عن القرار. فالنفوذ "الإسرائيلي" حاضر بقوة عبر ملفات عدة، منها مستقبل غزة، والهواجس الخليجية من إيران، وتوازنات ما بعد الأسد في سوريا. كما أن حضور بن غفير في فلوريدا، واللقاءات المستمرة مع الجمهوريين، يؤكد أن التنسيق السياسي لم ينقطع – بل إنه أكثر راحة حين يكون خلف الكواليس.
إن عدم زيارة ترامب "لإسرائيل" ليس انعكاسًا لانهيار العلاقة، بل نتاج براغماتية سياسية وتجارية صارمة. فالحرب في غزة تحوّلت من فرصة إلى عائق، ونتنياهو بات شريكًا صعبًا، والتطبيع لم يعد شرطًا، والمصالح الاقتصادية تُحتّم التركيز على الخليج. أما "إسرائيل"، فتبقى في الخلفية، تدير معاركها، وتنتظر دورها في مشاريع ترامب القادمة… من دون صورة جماعية هذه المرة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com