الخميس 15 أيار , 2025 12:39

الاختراق الناعم: استراتيجية العدو لتطبيع وجوده في المجتمعات الهشة

تغلغل العدو في المجتمعات العربية الهشة.

خرق المجتمعات، ذاك المصطلح الذي لطالما سمعنا عنه، لكن هل فكّرنا يوماً بكيفية وقوعه؟ عادةً ما يجهل الإنسان ما لا يراه، ويكوّن رؤيته استناداً إلى المعطيات المادية التي يلمسها. ولكن ما يُخفى يكون دائماً الجزء الأخطر. ما يظهر أثناء الحروب أو خلال محاولات القوى الاستعمارية إخضاع بلد أو شعب ما، هو الجانب الخشن فقط، فتبدو العملية وكأنها تُنجز بالوسائل القتالية حصراً، دون إشراك أي قوة أخرى. أما الجانب الذي يبقى في الظل، فهو أداة الاستعمار الحقيقية: "الخرق الناعم". في هذا النوع من الخرق، ترصد الجهة المستعمِرة المجتمعات الهشّة — تلك التي تفتقر إلى الحصانة الكافية — والتي يمكن النفاذ من خلالها لإحداث تغيير عميق في البنية الثقافية والاجتماعية. وهذا ما حصل تحديداً منذ احتلال الصهاينة لفلسطين واستيطانهم فيها، حيث بدأت عملية مراقبة دقيقة للبيئة والمجتمعات المحيطة، بهدف بناء استراتيجية تمكّنهم من التغلغل في المحيط العربي لاحقاً، وبالتالي الحفاظ على وجودهم في المنطقة. فما هو سياق هذه العملية؟ وما الوسائل التي استخدمت خلالها؟

التمهيد الصامت

السياق: يجدر الانتباه إلى أن لحظة ظهور الخرق ليست لحظة تنفيذه، إذ إن التنفيذ يتم عادةً في زمن بعيد نسبياً عن لحظة الظهور، وما يظهر لاحقاً ليس سوى النتائج الصادرة عنه. فمثلاً، "وثيقة كيفونيم" التي صدرت عام 1982 عن "مركز الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلي"، تنص على أن هدف "إسرائيل" في المدى البعيد هو "تفتيت الدول العربية"، باعتبار أن هذا التفتيت هو "مفتاح بقاء الاستيطان في المنطقة". ويُلاحظ هنا أن التخطيط بدأ قبل عقود، ما يعكس مدى بُعد النظر في مسار التغلغل.

الوسائل الناعمة

أما إنجاز التغلغل، فيتم عبر خرق متعدد الجبهات يشمل وسائل متنوعة: أولاً، إدخال الروايات الصهيونية المزيّفة في المناهج التعليمية للبلد المستهدف، كترسيخ فكرة أن فلسطين "حق مشروع للشعب اليهودي" وأن أرضهم تمتد "من البحر إلى النهر". ثانياً، حشد السرديات الهجينة في أذهان الشباب العربي بالاعتماد على المنظمات الدولية التي تضخ أفكاراً مفادها أن ما قام به اليهود هو "فعل مواطنة" لا احتلال، وأنه كما أن لكل شعب أرضاً، فإن "الشعب اليهودي" يستحق أرضاً كذلك. وتسعى هذه السرديات إلى زرع أفكار تحمل شعارات مثل "التسامح بين الأديان"، ولكن هل يمكن تبرير احتلال مجموعة لأرض وسلبها من شعبها بمصطلحات فضفاضة كالتسامح والتعايش؟ والأخطر من ذلك، أنه في حال رفضت الشعوب هذه الروايات، يتم وصمها بالعنصرية والإرهاب والكراهية، متغاضين تماماً عن أصل العنف الحقيقي المتمثّل في الاحتلال الصهيوني ذاته. ثالثاً، التغلغل داخل الأنظمة السياسية العربية واستغلال فساد الحكام لتوجيه عملهم بما يخدم الهدف ومعرفة نقاط ضعفهم بعد مراقبتهم والتعاطي على أساسها. مثلاً إن كان الزعيم مهتماً بالموقع والقوة فيعمل العدو انطلاقاً من هذه النقطة، وإن كان طموحه تحقيق ثروة هائلة انطلقوا من خلالها.

من التغلغل للهيمنة

التغلغل في المجتمعات ليس هو الخطوة النهائية -الغاية- فالعدو لا يقوم بفعل إن لم يكن مرتداً عليه بالمصالح، والمصلحة هنا تتمثل في بناء جيل كامل ليس لديه الحساسية التي كانت لدى الأجيال السابقة تجاه الاحتلال. وهذا ما يخدُم الهدف الأساسي وينتج عنه انحلال قيم المجتمع الأصلية ومبادئه، وبالتالي تصفية القضية الأساس، قضية فلسطين والتعامل معها ببرود وتجاهل تام. وبالتالي تبني سردية العدو والاعتراف به ككيان "طبيعي مشروع" وهذا ما يؤدي بدوره إلى تجاوز الضوابط والمحددات في المجتمعات ما يجعل المجتمع هشاً يسهل فيه بث الأفكار دون مقاومة ثقافية لرفضها أو دحضها. حيث يكون المجتمع في هذه الحالة في مرحلة "الاستسلام الفكري"، وبعد الاستسلام يتم الانتقال إلى مرحلة الخضوع للهيمنة التي فرضت نفسها، وبالتالي انعدام الحركات المناهضة للاحتلال بسبب الركود في الوعي المجتمعي الذي يعوّل عليه كعنصر لرفض الاستعمار.

التحالفات المُضلة

إذاً، الهدف واضح، وهو سعي العدو لتحويل حقيقة الاستعمار والتسلط لتظهر وكأنها حركة انفتاح وتحالف. بطبيعة الحال، الخطأ لا يكمن في بناء التحالفات الطبيعية، ولكن هل يمكن بناء تحالف مع كيان احتلال لا مشروعية له؟ مما يؤثر على مسار أي دولة ويضرب مرتكزاتها القائمة عليها، وبالتالي يُفقدها الحصانة تجاه الدخلاء عنها. فيصبح الجلوس إلى نفس الطاولة مع العدو أمراً لا ضير فيه، وحتى التحدث بلغته، والقيام بأفعاله، والترحيب بثقافته، حتى لو كان هذا على حساب جماعات أخرى -كالفلسطينيين-، تتأذى من طرفين: الاحتلال بنفسه، ومن الفئة المخترقة الراضخة لاحتلالها. (صحيحٌ بأن الفئة الثانية ليست محتلة فعلياً، ولكن مفهوم الاحتلال بما يتحتم عليه من معايير ينطبق عليها).


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور