في خطوة تعكس نيةً لتعزيز العلاقات وحرصاً على فتح قنوات تواصل دبلوماسي مع مختلف مكوّنات الدولة اللبنانية، وصل وزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران عباس عراقجي إلى بيروت، حيث سيقوم أثناء زيارته بحفل توقيع كتابه "قوة التفاوض" في فندق الكورال بيتش، كما سينطلق في جولة لقاءات مع مسؤولين لبنانيين. وعلى الرغم من محدودية العلاقات الرسمية المباشرة بين الجمهورية الإسلامية والدولة اللبنانية، إلا أن الزيارة تأتي في سياق محاولة إيران مدروسة لتأكيد سياستها، وإبداء الانفتاح تجاه الحوار، في ظل التحوّلات الإقليمية المتسارعة.
توقيع الكتاب
سيوقع الوزير عراقجي أثناء زيارته إلى بيروت بمحطة رمزية، كتابه الذي يوثّق مسيرته التفاوضية في الملف النووي الإيراني، بحضور شخصيات فكرية وإعلامية لبنانية. هذه المبادرة تندرج في إطار الانفتاح الثقافي الذي يحمل طابعاً حوارياً. واختيار بيروت كمحطة توقيع لكتاب تفاوضي يعكس رغبة طهران في تقديم تجربتها بوصفها تجربة قابلة للنقاش ومشاركة الآراء. كما أن توقيع الكتاب يشكّل مدخلاً لتأسيس علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، خصوصاً في ظل تعقيدات المشهد اللبناني وتنوع مكوناته.
لقاءات عراقجي
في جدول زيارته، يلتقي الوزير عراقجي كلًّا من رئيس الحكومة نواف سلام، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الجمهورية جوزيف عون، ووزير الخارجية يوسف رجي. هذا المسار الدبلوماسي لا يعكس فقط انفتاحاً إيرانياً على التنوع السياسي في لبنان، بل يبعث برسالة واضحة: طهران مستعدة للحوار مع مختلف المؤسسات، دون فرض أجندة أو إملاء شروط. بعكس ما درج عليه الموفدون الأمريكيون، الذين يقتصرون لقاءاتهم على الجهات المتناغمة مع رؤيتهم، يُظهر الوزير عراقجي نية واضحة للجلوس مع جميع الأطراف، بمن فيهم أولئك الذين لا يشاركون إيران بالخيارات الاستراتيجية. هذا التوجه يؤكده تمسّكه خلال لقاءاته المعلنة وغير المعلنة باحترام السيادة اللبنانية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، بل الاكتفاء بتقديم وجهات نظر ونصائح نابعة من خبرة بلاده في مواجهة التحديات الإقليمية. اللقاءات المتوقعة ستتناول، بحسب مصادر مطلعة، مستقبل الاستقرار في لبنان، ودور إيران في حماية السلم الإقليمي، في لحظة دقيقة تمرّ بها المنطقة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير. وتحمل زيارة الوزير عراقجي طابعًا تنسيقياً، خصوصاً أن إيران تكرر عبر قنواتها الرسمية أن استقرار لبنان أولوية، وأن دعمها للمقاومة لا يتناقض مع دعوتها إلى الاستقرار والحوار الداخلي.
دلالات التوقيت
تأتي زيارة عراقجي إلى بيروت في توقيت لا يخلو من الدلالات العميقة، سواء على مستوى الداخل اللبناني أو في سياق التحولات الإقليمية. فالزيارة تحصل بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، والذي انتهى بوقف لإطلاق النار الذي شارك في إنجازه رئيس مجلس النواب نبيه بري، في لحظة سياسية دقيقة ما زالت تداعياتها قائمة على مختلف المستويات. وتتزامن الزيارة أيضاً مع مرحلة جديدة في لبنان، عقب انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة، ما يمنح الوزير عراقجي فرصة للحوار مع سلطة رسمية كاملة الصلاحيات. كما لا يمكن فصل التوقيت عن المشهد الإقليمي الأوسع، لا سيما بعد التغيّرات في سوريا وسقوط النظام القائم فيها، وتشكل موازين جديدة.
في هذا السياق، تُقرأ زيارة الوزير عراقجي كرسالة إيرانية تؤكد على الاستمرارية في دعم لبنان، وخصوصاً جمهور المقاومة، حتى لو لم يُعبَّر عن هذا الدعم بصورة علنية مباشرة. فإيران، التي تدرك حساسية الساحة اللبنانية، تحرص على الحضور المتزن الذي يجمع بين الرمزية السياسية والاستعداد العملي للمساهمة في الملفات الحيوية، وعلى رأسها إعادة الإعمار بعد الحرب (لاسيما أن إيران ساهمت بعد حرب تموز بهذا الملف). الزيارة، إذاً، ليست فقط تواصلاً مع الدولة اللبنانية، بل مؤشر على جهوزية طهران للانخراط في لحظة إعادة ترتيب أولويات الإقليم، من بوابة التهدئة والتعاون.
من هنا، تبدو زيارة الوزير عراقجي إلى بيروت محملة برسائل داعمة وواضحة. إيران، التي لم تغب عن مشهد دعم لبنان في المحطات المفصلية، تحضر اليوم عبر شخصية الوزير عراقجي، لتقول إنّ أبوابها مفتوحة لحوار صريح، وإنّها مستعدة للعب دورٍ إيجابي في هذه المرحلة، بعيداً عن الإملاء والتدخل. وفي المقابل، يجب أن تُبدي الدولة اللبنانية، خلال استقبالها لعراقجي، قابلية جديدة لفتح نوافذ تواصل مع أطراف موثوقة، لا تفرض أجندات، بل تحترم سيادتها وتدعم خياراتها. وبين الطرفين، يُفتح أفق سياسي مختلف، لا يخلو من التعقيد، لكنه يحمل إمكانية التأسيس لمسارٍ بديل، تتراجع فيه الرهانات على الخارج المتقلّب.
الكاتب: غرفة التحرير