الجمعة 13 حزيران , 2025 03:52

حرب حقيقيّة بين إيران والعالم المهيمِن

صواريخ إيرانية ومنطقة الشرق الأوسط

بعد أيّام عسيرة من المفاوضات الإيرانيّة-الأميركيّة بموجب الاستعلاء الأميركيّ وغاياته الاستحواذيّة وشروطه الإملائيّة، أطاحت الساعات الأخيرة بالجولة السادسة من المفاوضات، مستأنفةً مراحل المسار الإجراميّ الذي سلكته "الهيمنة الغربيّة" ليصل آتونه إلى "طهران" بوصفها الحلقة المركزيّة في "جبهة المقاومة".  

لم تبدأ "طهران" الحرب، ولم تعدم احتواءها التصعيد، فقد انتهجت قيادتها سبيلًا عقلانيًّا بحنكة دبلوماسيّة نادرة، والتزمت صبرًا استراتيجيًّا لا يطاق، كسبًا للوقت ومراكمةً للاقتدار في مواجهة جنون "المهيمِن" الذي مضى قدمًا في مخطّطاته المرسومة سلفًا. 

جاء الإفصاح عن إنجازها الاستخباريّ الخطير والنوعيّ الأخير، كحاجة لرفع العدوان المحتمل عليها أو دفعه وتأخيره، وكرسالة قوّة بحيازة ما يخرج عن التوقّع، ويعيد التوازن لصالح "جبهة المقاومة"، وكورقة تفاوضيّة صالحة لكسب الوقت وتحسين شروط التداول، وكحجّة على ازدواجيّة المعايير التي تعتمدها الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة وعلى تورّط بعض أعضائها لصالح الكيان الصهيونيّ وبرنامجه النوويّ. 

انفجار المفاوضات وإنذارات الجريمة 

ليست هذه المحطّة الوحيدة التي يشهد فيها تاريخ المفاوضات الشاق مع "إيران" مأزقًا، وليست اللحظة الوحيدة التي تشهد فيها المفاوضات الأخيرة رسائل شدّة ونار في ساحات مختلفة، لكنها ذروة غليان البركان، الذي فجّره الكيان الصهيونيّ فجر الجمعة ١٣ حزيران ٢٠٢٥م، باستهدافات تجاوزت كافة خطوط الحمر، لتدخل المواجهة الأخيرة بين "جبهة المقاومة" و"العالم المهيمِن" مرحلتها الخامسة منذ عمليّة طوفان الأقصى في ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣م. 

 وضع "ويتكوف" الحبكة في نصابها، وهو المنتدب الأميركيّ إلى مفاوضات غزّة واليمن وإيران، معتبرًا أن تخصيب اليورانيوم أو تطوير القدرات النوويّة والقدرة الصاروخيّة بمثابة تهديد وجوديّ لـ"إسرائيل".  

لقد أعطى "ويتكوف" الإشارة الصريحة للانقضاض الإسرائيليّ وربما الأميركيّ على إعاقة تطوير قدرة إيران النوويّة أولًا وعلى النيل من قدرتها الصاروخيّة ثانيًا، لجلب "إيران" إلى بيت الطاعة الأميركيّة أو لإزالة مفاعيلها الثوريّة بكل بنيتها الداخليّة وامتداداتها الخارجيّة.  

لم يكن تجميد الصراع الأميركيّ اليمنيّ المباشر، وإن كان نجاحًا لليمن ومقاومته، إلا إتاحة من جانب آخر لليد الإسرائيليّة في القيام بدورها العدوانيّ عليه مباشرة، كإحدى سيناريوهات محتملة تقتصر على "إسرائيل" في الضغط الأميركيّ على "طهران"، ولم تكن تلك الجولات العدوانيّة الإسرائيليّة المتكرّرة عليه إلا مناورة حيّة، استطلاعيّة بالنار، وتمهيديّة تجريبيّة للهجوم على "إيران" بتوقيت "واشنطن".  

وفي هذا السياق، جاء ما أعلنته "وزارة الحرب الإسرائيليّة" عن "نقل أكثر من 90 ألف طن من الأسلحة، كجهد مشترك بين عدّة جهات تابعة للجيش الإسرائيليّ، تشمل بعثة المشتريات الدفاعيّة الإسرائيليّة في الولايات المتحدة، وفرع التخطيط وبناء القوة في الجيش..."، كإشعار بعمل غير مسبوق، لا يخفى على اللبيب احتماليّة العدوان على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. 

كما لم يخلو الإبقاء على الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة، والحيلولة دون سقوطها، إلا قرارًا واضحًا نحو المواجهة والتصعيد، في نفس الاتجاه المتدرّج للنيل من حلقات "جبهة المقاومة"، حلقة إثر حلقة. 

قبل ذلك، لم يكن فرض الولايات المتّحدة الأميركيّة للاتفاقات المؤقّتة على صيغها المتفاوتة في فلسطين ولبنان دون أدنى التزام من الجانب الإسرائيليّ، وإحداث انقلاب في سورية وتعديل موازين السلطة في لبنان، وتقييد إسناد الحشد الشعبيّ في العراق للمقاومة الفلسطينيّة، إلّا فتحًا للمسرح أمام التحكّم الإسرائيليّ بالنظر والنار، كمقدّمة ضروريّة للهجوم على إيران ما لم تذعن وتستسلم صاغرة للإملاءات الأميركيّة.   

تكون الولايات المتحدة الأميركيّة، ووفق تصوّراتها، قد قضت بيد إسرائيليّة على الدور الإيرانيّ في دعم دول وحركات المقاومة، بالميدان والحصار بدلًا من الدبلوماسيّة والمفاوضات، أي شطبت بندًا رئيسيًّا مما كانت تشترطه، واستطاعت أن تضرب المقاومة في لبنان وفلسطين وخط إمدادها العراقي السوري وتعيدها سنوات ضوئيّة إلى الوراء، وتفكّك فكرة "جبهة المقاومة" في مخيّلة روّادها بعد أن اغتالت أعمدتها. 

مرحلة الانقلاب على المفاوضات بالنار  

 انتهجت الولايات المتّحدة الأميركيّة الأسلوب عينه في محاولتها تقييد المسألتين الصاروخيّة والنوويّة، وتكريس وقائع جديدة. 

بعد تمزيقها الاتفاق النوويّة الموقّع عام ٢٠١٥، ها هي عبر عمليّة إسرائيليّة خبيثة تنقلب بالنار على المفاوضات. 

  استهدف "الكيان الصهيونيّ" بتحفيز أميركيّ في عدوانه السافر عددًا من القادة العسكريّين وعلماء الذرّة، والمنشآت النوويّة والعسكريّة، وكعادته لا يرف له جفن بإزهاق أرواح المدنيّين.  

 لتستكمل المواجهة تاليًا بعملية القضاء المتدحرج على ما تبقى من أثر مقاوم بأيدي قوى محليّة، يوازيها اتخاذ إجراءات عقابيّة عدوانيّة مفتوحة، وحظر قانونيّ دوليّ، فضلًا عما تتكفّله وزارة الخزانة الأميركيّة وغيرها من أدوار تخدم أغراضها، وهكذا يتم اغتيال القادة والعلماء وتدمير القدرات العلميّة والعسكريّة وإحباط عمليات التمويل. 

وبذلك تكون الولايات المتحدة الأميركيّة قد نزعت فتيل التهديد الوجوديّ القريب والمتوسّط والبعيد الذي يستهدف الكيان الإسرائيليّ ونظام هيمنتها في المنطقة، وأعادت رسم خريطتها الجيوسياسيّة على طريق إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، والتوصّل إلى دولة إسرائيليّة خالصة، وإنجاز ممر "الهند-الشرق الأوسط-أوروبا"، والسيطرة على نقاط الالتقاء الاستراتيجيّة، مثل الممرّات البحريّة. 

المنطقة على فوهة بركان  

أدخلت الولايات المتحدة الأمريكيّة بيد "الكيان الصهيونيّ" واعتدائه السافر على إيران كلّ المنطقة في مرحلة جديدة غير واضحة في مآلاتها، امتلك الكيان الغاصب حروف بدايتها العدوانيّة، لكن، لا يمكن لأي امرئ أن يحسم سيرورتها ونهاياتها. بما أن وجهة الأحداث تتحدّد وفقًا لموازين القوى وتفاعلاتها،  وإن كان  من المحتوم أن "جبهة المقاومة" كافة معنيّة بما حدث، ومن القطعيّ أن إيران ستردّ ردًا مباشرًا غير مسبوق، لم يشهده "الكيان الصهيونيّ" من قبل.

تبقى ديناميّات الميدان وتقدير الموقف لدى صنّاع القرار على طرفي نقيض من المواجهة الجارية هي التي ترسم ملامح منطقة غرب آسيا، وفق طموح معلن من "جبهة المقاومة" بتوجيه ضربة للكيان الصهيونيّ اللقيط بنحو قويّ ومدروس ومن ورائه شبكة الهيمنة المعولمة.

إنّها لحظة التحدّيات المفصليّة وربّما المصيريّة، لا يصمد فيها إلا من كان على قدرها، ولا قدر لأهل المقاومة والدفع عن الإنسان والإنسانيّة إلا بمواجهة الهيمنة والاحتلال والعدوان والإبادة. 


الكاتب:

د.عبد الله عيسى

باحث في الاجتماع السياسيّ والشؤون الإيرانيّة




روزنامة المحور