الإثنين 13 كانون الثاني , 2025 04:20

فجوة التكنولوجيا ومعركة أولي البأس: ليست قدراً لحسم الصراع

برز في تقييم مسار ونتائج العدوان الاسرائيلي على لبنان دور لافت للتكنولوجيا في تحقيق نتائج هامة في الميدان. خاصة الذكاء الاصطناعي بوصفه المنتج الجديد الذي أحدث فارقاً في المواجهة لصالح الكيان المحتل في عدد من العمليات القاسية، وخصوصاً اغتيال القيادات وتدمير جزء من القدرات العسكرية. واعتبر ذلك السبب الاول الذي مكّن العدو من تحديد أماكن تواجد عدد من القيادات الاساسية وايضاً مخازن السلاح. باختصار تفيد السردية القائمة ان عمليات الاستطلاع الجوي الاسرائيلي ليست طارئة او جديدة الا بقدر توافر بعض الانواع الجديدة الاكثر دقة من كاميرات الرصد الجوي وايضاً ادوات جديدة من التعقب والرصد الحراري والالكتروني.

لكن مع تطور برمجيات تعقب البصمات المرتبطة بالوجه والصوت وحركات الاجسام، وانتشار أأجهزة الاتصال الهاتفي الذكية وما وفّرته من اشارات للتعقب وأيضاً كميات هائلة من المعلومات المخزنة في أجهزة داتا ضخمة يحتكر الاميركيون بالدرجة الاولى السيطرة عليها أو القدرة للوصول اليها واستخدامها، حصل الفارق التكنولوجي بعدما كان العدو سابقاً يحتاج الى جهد بشري كبير وفترة زمنية طويلة لتحليل نتائج الرصد المتعدد المجالات. وأدى تطوير برامج التحليل المعلوماتية المعتمدة على الذكاء الصناعي الى اختصار الزمن بمقياس "فرط وقتي" إن صح التعبير، بحيث بات العدو يستطيع تحديد طبيعة ومواقع الأهداف وتشخيصها والمتغيرات فيها بسرعة قياسية تساهم في تحقيق "الانجازات" الميدانية المتتالية، وتصعب المهمة أمام الخصم/حزب الله، وتعطي العدو ميزة تفوق لم يكن أثرها واضحاً سابقاً، ولم تكن مجالاً لمناورات إختبار لفعاليتها.

لكن هذا الفارق التكنولوجي غير المسبوق لم يمكّن العدو من حسم المعركة لصالحه رغم النقاط الكبيرة التي حققها، ولم يتمكن من تحقيق الأهداف الكبرى للحرب، فضلاً عن انه لم يستطع منع المقاومة الاسلامية من الاحتواء السريع لهذا الفارق والبدء بموجة قتال موائمة للتحديات التكنولوجية الجديدة وخوض قتال متعدد الجبهات والمجالات أفقدت فيه العدو هذه الميزات ومكنتها من تحقيق نقاط انتصار هامة وملفتة.

اختلال ميزان القوى: مقاربة خاطئة

صحيح ان ما حققه العدو الاسرائيلي ترك أثراً في وعي جمهور ما في المنطقة بفعل التسويق الاعلامي اليومي لهذا "المنجز"، انعكس مثلا في فهم بعض القيادات السياسية في لبنان مثل السياسي اللبناني وليد جنبلاط الذي قال في أحدث تصريح له ( الاثنين ٦/١/٢٠٢٥، برنامج  عشرين ٣٠) إن "المقاومة كان لها امجادها لكن هذا الزمن انتهى بفضل التكنولوجيا"، وإن إيران لم تتخل عن "الحزب" بل قدمت الإمكانيات المتاحة إنما هذه الإمكانيات متخلفة عن التكنولوجيا الأميركية". ويمكن العثور على مقاربات مماثلة تعتبر أن الفجوة التكنولوجية باتت قدراً محتماً لا يمكن مواجهته، وبالتالي فإن المرحلة الجديدة ستكون مختلفة عن السابق لجهة انعدام القدرة على الحاق الهزيمة بالكيان الإسرائيلي. علماً ان هذا الكيان بذاته رغم احتفائه بما حققه في الحرب الاخيرة الا أنه لم يعلن رسمياً قضاءه على الخطر الاسراتيجي الذي يمثله حزب الله، وأن ما تقوم به "اسرائيل" وتريد القيام به هو منع الحزب من اعادة ترميم قدراته، مع الاشارة الى ان هناك تقديرات اسرائيلية وغربية تؤكد ان الحزب لا يزال يملك إمكانيات كبيرة جدا تمكنه من خوض معركة مماثلة وأكثر قسوة ولفترة زمنية أطول. ولعل التصريحات الأخيرة لأبرز المؤرخين والخبراء الاسرائيليين بشؤون الشرق الاوسط ايال زيسر (يسرائيل هيوم، ٨/١/٢٠٢٥) ودعوته القيادة الاسرائيلية لعدم الرهان على أحد في تقويض قدرات حزب الله العسكرية (سمى الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل) والاستمرار في تنفيذ العمليات ضده حتى لو أدى ذلك الى انهيار اتفاق وقف اطلاق النار لأنه لا يوجد أحد في لبنان قادر على الوقوف في وجهه وانه (حزب الله) "في اللحظة التي يدرك فيها أن وقف النار اصبح مستقرا وثابتا سيرفع رأسه من جديد ويبدأ ترميم قدراته العسكرية"، وأن "السبيل الوحيد لمواجهته ليس التفاهمات والاتفاقات بل من خلال استخدام القوة" . أيضا هناك مقالة بعنوان "حزب الله لا يزال خطيرا" نشرتها جريدة "تايمز أوف اسرائيل" (٧/١/٢٠٢٥) تتمحور حول المخاطر التي لا يزال يشكلها حزب الله ويمكن أن يشكلها في المستقبل القريب مع اعادة ترميم "ترسانته العسكرية على أمل محاربة اسرائيل في يوم آخر"، مع الاشارة طبعا ان الامين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم يواظب في اطلالاته الاعلامية على التأكيد أن المقاومة الاسلامية قد تعافت وهي في مسار تصاعدي من التعافي المستمر. ولعل هذه القناعات هي ما تدفع  رئيس مستوطنة المطلة الى تكرار تحذيراته لسكان المستوطنة بعدم العودة إليها "حتى لا يشهدوا أحداث ٧ اكتوبر بعد عامين أو ثلاثة" (أحدث تصريح له يوم الثلاثاء ٧/١/٢٠٢٥).  وهذا يعكس ترسخ القناعات الاسرائيلية بامكانية معالجة حزب الله لكل الثغرات التي أكتشفها وبرزت اثناء الحرب والقتال وإعادة تشكيله خطرا كبيرا على "اسرائيل" رغم تفوقها التكنولوجي.

ولعل الاختلال البنيوي في مقاربة نتائج الحرب تكمن في المنهجية التي يتم اعتمادها لتحليل عناصر القوة لدى الطرفين. فتحليل ميزان القوى بين "اسرائيل" وحزب الله لا يتم وفق مؤشرات الدول لأن حزب الله ليس دولة بل قوة غير نظامية. ورغم أن لدى المقاومة قدرات عسكرية وقتالية تعتبر حكراً على الدول وليست متوافرة عادة للتشكيلات "غير الدولتية"، فان نقطة قوة المقاومة الاساسية هي انها بنت سيناريوهاتها لقتال العدو الاسرائيلي وفق تكتيكات "الحروب غير المتناظرة" من جهة، حيث تشتبك قوتان عسكريتان واحدة نظامية والأخرى غير نظامية، ومن جهة أخرى اعتمدت ايضا بعض تكتيكات الحروب النظامية بسبب امتلاكها اسلحة وقدرات جيوش نظامية. وبالتالي لا يوجد مؤشر قياس واحد لتفسير نتائج الحرب الأخيرة اعتماداً فقط على نقطة التفوق الكنولوجي، والتي مهما عظمت لا يمكن الاعتماد عليها في حسم نتائج الحروب الا بقدر عدم جهوزية الطرف الثاني المستهدف وعدم قدرته على احتواء مخاطر التفوق التكنولوجي، وهذا الأمر بدا واضحاً ان المقاومة الاسلامية استدركته بسرعة وسعت لجسر  الفجوة بالطرق والتكتيكات المناسبة ادراكاً منها بوجود وسائل وطرق للالتفاف على عناصر التفوق التكنولوجي المتعدد الأوجه.

ولعل ما يسمى بـ"الدفاع السلبي" هو أبرز منهجيات العمل لإسقاط او تقليص مفاعيل القوة الاسرائيلية المشخصة سابقاً لدى قيادة المقاومة في وضعية المتفوق من عدة نواحي، لكن مع ادراك وفهم نقاط القوة والضعف لديها وكيفية النفاذ بينهما ووضع الاستراتيجية الملائمة لخوض القتال في ظل معطيات من هذا النوع. ولعل التحدي الأول الذي استطاعت قيادة المقاومة  معالجته بسرعة قياسية هو تمكنها من اسقاط عنصر التفوق هذا في اجراءات حماية قيادتها الجديدة السياسية والعسكرية وبمستوياتها الهرمية التنازلية من اعلى الى اسفل بما مكن المقاومة من مواصلة عملها وتشغيل بنيتها القتالية في الميدان بالطريقة التي أهلتها لتحقيق الفعالية المطلوبة وتنفيذ برنامج العمل بعيداً عن مخاطر التفوق التكنولوجي المدمج بين الاطباق الجوي والسرعة في تحليل المعلومات الواردة منه والسرعة في تنفيذ عمليات القصف القاتل والمدمر، وهي ظروف لا يمكن لمفردة "صعبة" او "قاسية" ان تعبر عنها بدقة، بل تحتاج الى مفردات اكثر تعبيراً عن حقيقة ما جرى خلال شهري الاشتباك المباشر، ومع ذلك تمكنت المقاومة الاسلامية من الحفاظ على حياة قيادتها الجديدة والعمل في الميدان ضمن ادارة نارية ملفتة حيث كانت ايضاً تواجه تحديين هما: الحفاظ على ما تبقى من مخزون تسليحي وتفعيله في أرض المعركة، وايضاً توفير شبكة اتصال بين القيادة والميدان بما يسقط مفاعيل التفوق التكنولوجي ويحتويه الى درجة صفر فعالية، وهذا ما تم معالجته سريعا بدليل استمرار زخم وتصاعد العمليات بما أجبر العدو على وقف الحرب رغم كل ما قدمه لجمهوره من "انجازات" واعلان "انتصاره" في الحرب قبل انتهائها.

 يعطي هذا المجال مثلاً عملياً على كيفية احتواء مخاطر التفوق التكنولوجي وامكانية العمل تحت هذه الأسقف الخطيرة من السيطرة الجوية والقدرة المفرطة على الاستعلام والقصف.

مثال آخر يرتبط بالمواجهة البرية التي توفر فرصاً أفضل للعدو في كشف الميدان والسيطرة عليه ومع ذلك كانت نتائج محاولات التوغل البرية محدودة جداً قياساً بعديد القوات التي تم حشدها على الحافة الامامية (بين ٥٠ الى ٧٠ الف عسكري اسرائيلي) وزخم النيران والتدمير الذي استخدم بما صعب مهمة مجاهدي حزب الله في قرى الحافة الامامية، ومع ذلك تمكنوا من التنقل والاحتماء والقتال ومنع العدو من التقدم بمشاته وأبقوا سيطرتهم النارية على آلياته العسكرية بما فيها أفضل دبابات الميركافا، حيث تم تقريباً تدمير كل دبابة ومدرعة وجرافة أطلت برأسها امام مرمى المقاومين، ما دفع العدو مسبقاً الى تحييد سلاح الدبابات من المعركة خوفاً على مخزونه منها. والعدد المعلن للدبابات المدمرة من قبل المقاومة خلال فترة ٥٧ يوما هو ٥٩ دبابة حاولت التقدم ففشلت، وهذا يؤكد ان العدو رغم كل ما حشده من جهد وقدرات ومعرفة تكنولوجية فانه لم يستطع تحقيق نتائج معتبرة في القرى الحدودية الأمامية، كما انه لم يستطع أن يشل حركة المجاهدين ويمنعهم من توظيف تضاريس الجغرافيا وتطويعها لمصلحتهم، فضلا عن العنصر الاساس الذي لم يسقط أمام الهلع والرعب الذي يوفره المزج بين التكنولوجيا المتقدمة وبين غزارة النيران وغريزة التوحش، فهذه كلها لم تمس بروحية المجاهدين ولم تسقط معنوياتهم وثبتوا في مواقعهم بشكل اسطوري يتجاوز "أسطرة" مخاطر التفوق التكنولوجي. وبالتالي فان امجاد المقاومة حقيقة لم تعد من الماضي بل أصبحت في ضوء التجربة الأخيرة نموذجاً حقيقيا يبنى عليه في كيفية تفوق المعنويات وإرادة القتال مع قدر معتبر القدرات القتالية والخبرة في ادارة المعارك وتحويل نقاط الضعف الى قوة وتطويع الجغرافيا لصالح أصحاب الارض بحيث يمكن اسقاط مفاعيل اختلال ميزان القوى لصالح الأقل قوة، وتثبيت تكتيكات "الحرب غير المتناظرة" في تحقيق نتائج حاسمة على الاطراف الذين يعتمدون استراتيجيات الحروب النظامية. وهذا ليس كلاماً انشائياً او استعراضياً بل هو حقيقة ماثلة في جنوب لبنان حيث لم يستطع الاسرائيلي رغم كل تفوقه العسكري من حسم الميدان لصالحه واحتاج الى اتفاق وقف اطلاق النار ليواصل في فترة وقف القتال ما عجز عن تنفيذه اثناء الحرب.

 على العكس تماماً فان المجد الذي يمكن الاحتفاء به هو هذا الذي تحقق في ظل ظروف غير متكافئة بالمطلق مكنت مئات من المجاهدين فقط من الصمود والقتال الاستشهادي مقابل القتال التراجعي الذي ميز اداء قوات العدو الاسرائيلي في الميدان الجنوبي رغم كل ما يتوافر لهم من تفوق تكتولوجي.

لقراءة الورقة كاملة





روزنامة المحور