السبت 17 أيار , 2025 12:55

محادثات إسطنبول: روسيا وأوكرانيا بين الحرب والتفاوض والتبعية

الرحب بين روسيا وأوكرانيا

تشكل الحرب الروسية الأوكرانية (2022–2025) نقطة تحول جيوسياسية وأمنية كبرى على الساحة الدولية، حيث تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية والقوى العظمى في مواجهة صراع طويل الأمد. بدأت الحرب بغزو روسي واسع النطاق في فبراير 2022، معلنة أهدافًا تتعلق بنزع سلاح أوكرانيا وحماية الأقاليم ذات الأصول الروسية، إلا أن جذورها تعود إلى مخاوف موسكو من توسع حلف الناتو شرقًا، وخصوصًا قرب حدودها مع أوكرانيا، في تحد مباشر للتوازن الجيوسياسي الإقليمي. من جانبها، استغلت الولايات المتحدة والناتو هذا الصراع كفرصة استراتيجية لإضعاف روسيا من خلال الدعم العسكري والاستخباراتي لأوكرانيا، إلى جانب فرض عقوبات اقتصادية موسعة أدت إلى حرب مالية موازية.

على الرغم من الدور الكبير لأوكرانيا كطرف متضرر وصراع بالوكالة، فإنها تواجه واقعًا معقدًا بين الحاجة للدعم الغربي والتضحيات الجسيمة التي تكبدها شعبها، مما يطرح تساؤلات حول حدود هذا الدعم وأهدافه الحقيقية. مع تصاعد الحرب، شهدت الفترة 2024–2025 محاولات متعددة للتهدئة والتفاوض، أبرزها محادثات الرياض التي استثنت الأطراف الأوكرانية والأوروبية، ما كشف عن تعقيدات المصالح الكبرى التي تحكم عملية السلام، إذ تحول التفاوض إلى ساحة حرب بوسائل دبلوماسية تهدف إلى إعادة رسم النفوذ الجيوسياسي أكثر من تحقيق حل شامل.

في هذا الإطار، يمثل "اتفاق المعادن النادرة" الموقع بين أوكرانيا والولايات المتحدة في نيسان/ أبريل 2025 نموذجًا واضحًا لتحول الصراع من أداة عسكرية إلى سيطرة اقتصادية، إذ يكشف عن محاولة أمريكية لتعزيز نفوذها طويل الأمد عبر الموارد الطبيعية الاستراتيجية لأوكرانيا، ما يعيد إلى الأذهان أن الحرب ليست فقط حول الأرض والسيادة، بل حول الاقتصاد والهيمنة. كما يعكس غياب الضمانات الأمنية الواضحة ضمن هذا الاتفاق تحديًا لسيادة أوكرانيا ويدعو إلى انتقادات حادة داخل المجتمع الأوكراني.

أما التطورات الأخيرة، ومنها محادثات سلام في إسطنبول، فتبرز محاولة من الأطراف المعنية لإيجاد مخرج سياسي وسط واقع من الانعدام التام للثقة، إذ ما تزال المواقف متباينة جذريًا بين استعادة أوكرانيا لأراضيها كاملةً، ورفض روسيا التخلي عن المكاسب التي حققتها على الأرض. في هذا السياق، يظل انعدام الثقة والضغوط الدولية المتناقضة أبرز العقبات أمام السلام المستدام، حيث تتشابك المصالح الكبرى مع مشاعر الحقد والدمار، ما يفرض على المجتمع الدولي الدور المحوري في خلق آليات ضمانات أمنية ودبلوماسية فعالة.

بالتالي، فإن الحرب الروسية الأوكرانية تعكس صراعًا معقدًا متعدد الأبعاد، يجمع بين القوة العسكرية، الهيمنة الاقتصادية، والسياسة الدولية، حيث تبقى أوكرانيا محطًا لصراع مصالح متشابك ومستمر يعيد تشكيل النظام العالمي وفقًا لموازين قوى جديدة غير مستقرة.

ولا يعد اتفاق المعادن بين أوكرانيا والولايات المتحدة مجرد صفقة اقتصادية، بل خطوة استراتيجية ضمن إعادة هندسة أوكرانيا كـ"دولة ما بعد الصراع" تخضع للاشتراطات الغربية. فالاتفاق يمنح واشنطن: نفوذًا طويل الأمد على الموارد الاستراتيجية الأوكرانية وامتيازات اقتصادية هائلة تحت غطاء الإعمار، بالإضافة إلى دور ريادي في رسم مستقبل أوكرانيا السياسي والاقتصادي.

في المقابل، لا تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية ملزمة، مما يجعل الاتفاق أقرب إلى نموذج "الهيمنة المقنّعة" منه إلى الشراكة المتكافئة. إنّ التحديات التي تواجه أوكرانيا وروسيا لا تنبع فقط من ساحة المعركة، بل من البيئة السياسية والاقتصادية الأوسع التي تحيط بالنزاع.

محادثات إسطنبول

في هذا السياق، جاءت محادثات السلام في تركيا هذا الأسبوع؛ وهو ما وافق عليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، داعيًا نظيره الروسي فلاديمير بوتين إلى لقاء مباشر. غير أن بوتين رفض الحضور وعيّن مساعده ميدينسكي لرئاسة الوفد الروسي، الذي ضمّ نواب وزراء ومساعدين من مستويات أدنى، دون حضور أي من كبار المسؤولين مثل وزير الخارجية سيرغي لافروف.

واعتبر زيلينسكي - وفق ما نقلته صحيفة "كييف إندبندنت" الأوكرانية أن موسكو أرسلت "وفدًا شكليًا"، بينما رأى مسئولون غربيون أن غياب كبار الشخصيات الروسية يعكس عدم جدية الكرملين في التوصل إلى سلام حقيقي.

ورغم مغادرة زيلينسكي إلى ألبانيا لحضور قمة سياسية، إلا أن وفدًا أوكرانيًا يضم رئيس مكتب الرئاسة أندري يرماك، ووزير الخارجية أندريي سيبيها، والوزير أوميروف، واصل المحادثات في إسطنبول.
كما عقد الوفد الأوكراني لقاءات مع مسئولين أمريكيين، بينهم وزير الخارجية ماركو روبيو، في وقت سابق من اليوم.

وكانت كييف وحلفاؤها قد دعوا موسكو إلى وقف غير مشروط لإطلاق النار اعتبارًا من 12 مايو؛ كبداية لعملية سلام، وهو ما تجاهلته روسيا. وبينما تأمل أوكرانيا في مناقشة هدنة محتملة خلال المحادثات، تصرّ موسكو على أن الاجتماع يشكل امتدادًا لمحادثات عام 2022، مشددة على ضرورة معالجة ما تعتبره "جذور النزاع".

وأعلن وزير الدفاع الأوكراني، رستم أوميروف، الذي ترأس وفد بلاده في محادثات إسطنبول، أن روسيا وأوكرانيا توصّلتا إلى اتفاق لتبادل أسرى الحرب على قاعدة "1000 مقابل 1000". 

يحاول زيلينسكي استباق أي اتفاق خارجي يتجاوز كييف (كما حصل في محادثات الرياض)، عبر جمع الأطراف على أرض محايدة بمبادرة أوكرانية. أما روسيا تستخدم انفتاحها التكتيكي في إسطنبول لتخفيف العزلة الدولية وربما لخلق انقسام داخل المعسكر الغربي بين من يريد إنهاء الحرب ومن يريد استمرار الضغط.

أما موقف الولايات المتحدة فكان حذرًا ومتناقضًا، فعبر ترامب عن تشاؤمه بشأن نتائج المحادثات، لكنه أبدى استعدادًا لحضورها "إذا كان ذلك مفيدًا". يعكس هذا الموقف استراتيجية ترامب الخارجية التقليدية بتقليل الالتزامات العسكرية، مقابل تهديدات اقتصادية (عقوبات)، واستعدادًا للمناورة التفاوضية متى ما خدم ذلك المصالح الأمريكية المباشرة.

انعدام الثقة: جوهر العائق أمام السلام

رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب، لا تزال الثقة منعدمة بشكل عميق بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما يُعد أكبر عائق أمام التوصل إلى اتفاق سلام دائم. ويتجلى هذا الانعدام في موقف طرفي النزاع، فأوكرانيا مصرّة على استعادة كامل أراضيها المعترف بها دوليًا، بما في ذلك القرم ودونباس، وتعتبر أي تسوية لا تتضمن انسحابًا روسيًا شاملًا خيانة وطنية. وفي المقابل، تعتبر روسيا بعض المناطق جزءًا من سيادتها الآن بعد "الاستفتاءات" التي أجرتها، وتتمسك بها كواقع جيوسياسي جديد، وتنظر إلى حياد أوكرانيا وتقليص نفوذ الناتو كشرط وجودي لأمنها القومي.

أما المجتمع الدولي – خاصة الدول الغربية – يضغط بشكل متزايد على الطرفين لإنهاء النزاع، لكن هذا الضغط ليس دائمًا متناسقًا أو نزيهًا، بل يعكس مصالح معقدة فتسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على استنزاف روسيا دون الانخراط في حرب مباشرة. وفي الوقت نفسه، تواجه ضغوطًا داخلية لتقليل الإنفاق على الحرب مع اقتراب الانتخابات أما الاتحاد الأوروبي فيعاني من تبعات اقتصادية هائلة (أزمة طاقة، تضخم، ضغط اللاجئين). ومتردد في تسوية لا تشمل سيادة أوكرانيا، لكنه يخشى في الوقت نفسه حربًا طويلة بلا نهاية.

وفي حين تُطالب الأطراف الدولية بالتفاوض، إلا أنها تستمر بتزويد السلاح والدعم المادي لأحد الطرفين، مما يُضعف فرص التهدئة الحقيقية.

إعادة الإعمار: رهينة الحرب والسلام

من أبرز التحديات المستقبلية ملف إعادة الإعمار في أوكرانيا، وهو ملف بالغ الأهمية وله أبعاد استراتيجية، اقتصادية، وسيادية:

ويبرز هنا الدور الغربي في التعاطي مع أوكرانيا كساحة استثمار، فتم توقيع اتفاقات مثل "اتفاق المعادن" بين أوكرانيا والولايات المتحدة، الذي يتضمن إنشاء صندوق مشترك من عائدات الموارد الطبيعية. لكن هذا التمويل مشروط، وغالبًا يصب في مصلحة الشركات الغربية أكثر من أولويات الشعب الأوكراني. في هذا السياق، يرى العديد من الأوكرانيين أن الغرب يستخدم إعادة الإعمار كوسيلة للسيطرة الاقتصادية طويلة الأمد. ويبقى موضوع إعادة الإعمار مرهون بنجاح العملية السياسية المستمرة في إسطنبول.

ويمكن تلخيص الوضع الراهن بثلاث مفارقات:

- لا سلام ممكن دون ثقة – ولا ثقة تُبنى في ظل استمرار الحرب.

- العالم يريد إنهاء الحرب – لكن مصالحه الموزّعة تعيق تسوية حقيقية.

- أوكرانيا تحتاج لإعادة إعمار – لكنها مهددة بأن تتحول إلى سوق مفتوحة لا دولة ذات سيادة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور