السبت 19 نيسان , 2025 12:29

ترامب وإشكالية التحول في العلاقات الروسية الأمريكية

ورقة علمية: ترامب وإشكالية التحول في العلاقات الروسية الأمريكية

شكَّل لقاء القمة الأمريكي الأوكراني في واشنطن في آخر شباط/ فبراير 2025 تكريساً لتوجه جديد تبنته الولايات المتحدة تجاه روسيا التي تمثل خصمها التاريخي، فقد أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump ونائبه جيمس فانس JD Vance ملاحظات علنية ناقدة وحادة لسياسات أوكرانيا تجاه روسيا، وهو ما استدعى ردة فعل واسعة في دول الاتحاد الأوروبي وقيادات حلف شمال الأطلسي (الناتو) North Atlantic Treaty Organization (NATO)، بل وفي موقف الحزب الديموقراطي Democratic Party الأمريكي الذي انتقدت قياداته البارزة الموقف الذي تبناه ترامب، إلى جانب بعض النقد من شخصيات في الحزب الجمهوري Republican Party الذي ينتمي له ترامب، ومن نخب فكرية أمريكية مرموقة.

نقدم إليكم في هذا السياق، جزء من دراسة من إنتاج مركز الزيتونة للدراسات، بعنوان "ترامب وإشكالية التحول في العلاقات الروسية الأمريكية" بقلم أ.د وليد عبد الحي، ويمكنكم تحميلها بشكل كامل في نهاية النص.

انصب النقد على سياسة ترامب على ناحيتين هما: الناحية الشكلية من حيث التجاوز للتقاليد الديبلوماسية في إدارة الحوار والتفاوض وبشكل علني، ناهيك عن قواعد الحوار الديبلوماسي خصوصاً من حيث المفردات المستخدمة ولغة الجسد والاتهام الواضح للرئيس الأوكراني، وهو ما أدى إلى لغط وتأجيل لاتفاق كان من المأمول توقيعه بين الطرفين بخصوص الموارد الأوكرانية من المعادن النادرة، ثم إلغاء مؤتمر صحفي كان من المقرر عقده بعد اللقاء.

أما الجانب الثاني فانصب على نقد مضامين التوجه الجديد لترامب من حيث إيجاد تصدع في جبهة التحالف الغربي ضدّ روسيا بسبب سياساتها تجاه أوكرانيا أو قضايا دولية أخرى، خصوصاً موضوع فرض الجمارك على دول حليفة مثل الاتحاد الأوروبي وكندا وغيرها، ثم القلق على مدى تماسك حلف الناتو وتوجهاته الجديدة، ناهيك عن تعميق الانقسام داخل الولايات المتحدة حول الموقف من روسيا وكندا وغيرهما.

تفسير سياسة ترامب تجاه روسيا:

كثيراً ما تُربك "نقاط التحول Turning Point" في سياسة أيّ دولة، خصوصاً إذا كانت من الدول الكبرى، التحليلات السياسية لتفسير ذلك التحول، خصوصاً الذي لم تسبقه مقدمات بنيوية واضحة، فالعلاقة الأمريكية الروسية (وقبلها السوفييتية) اتَّسمت في اتجاهها الأعظم بالتنافس السلمي Competition أحياناً، والتنازع Dispute باستخدام الأدوات الناعمة للضغط المتبادل بقدر أكبر، والصراع Conflict باستخدام الأدوات الخشنة بشكل عام، فإذا استثنينا فترة الحرب العالمية الثانية، بظروفها الخاصة، وبعض التقارب النسبي خلال فترة ميخائيل جورباتشوف Mikhail Gorbachev وبوريس يالتسين Boris Yeltsin قبيل تفكك الاتحاد السوفييتي، فإن التنازع القطبي بين البلدين كان هو السمة المركزية في تفاعلات العلاقات الدولية المعاصرة.

لكن فترة تولي الرئيس ترامب (بداية 2017 – نهاية 2020) انطوت على قدر من تراجع حدة التنافس بين البلدين، وتعزز هذا التراجع مع عودة ترامب للرئاسة مرة ثانية في مطلع سنة 2025، فقد أبدى إعجابه المتكرر بشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين Vladimir Putin، وجرت اجتماعات بين مسؤولين أمريكيين وروس في السعودية بعيداً عن مشاركة أوروبية او أوكرانية، وعمل على إعادة روسيا لمجموعة السبعة G7، بل وأكد على الميل للتعاون الاقتصادي مع روسيا.

ولتفسير هذا التحول الأمريكي تجاه روسيا، هناك ثلاث فرضيات سادت أدبيات العلاقات الدولية المعاصرة وهي:

الفرضية الأولى: العودة إلى النموذج الويستفالي Westphalian لمواجهة أعباء العولمة:

يُقر أغلب الباحثين في الشأن الأمريكي بصعوبة التصنيف الأيديولوجي للرئيس الأمريكي ترامب، لكنهم يميلون لربطه بتيار ما يسمى "اليمين البديل أو المحافظون القدامىPalo conservative الذي يجمع بين النزعة الأبوية المحافظة، والنزعة الوطنية (أو القطرية)، والأخلاق المسيحية، والنزعة الإقليمية والتي تعد من مكونات "اليمين التقليدي"، ويكاد أن يتمركز جمهور هذا التيار في الحزب الجمهوري. أما في السياسة الخارجية، فإن هذا التيار يركز على الحمائية Protectionism التجارية، ومعارضة العولمة، وضبط التدخل العسكري، وجعل المصلحة القومية تعلو غيرها.

الفرضية الثانية: نظرية المؤامرة:

تشكّل نظرية المؤامرة موضع نقاش واسع وتاريخي بين الباحثين والتيارات السياسية، ويعرف مايكل باركون Michael Barkun المؤامرة بأنها خطة سرية يضعها عدد محدود من الأفراد لتغيير واقع معين، وقد تكون الخطة متعلقة بحدث معين (كالاغتيال) أو بنيوية (كتغيير عميق لنظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي)، أو ذات طابع ميتافيزيقي (أي أن قوى غيبية تتدخل في إحداث التغيير)، وتمثل فكرة العمل الاستخباراتي القائمة على تجنيد شخص ما لأداء مهمة كبرى في دولة معينة أبرز اشكال المؤامرات السياسية.

وعند النظر في توجهات أصحاب نظرية المؤامرة بخصوص التحول الأمريكي في العلاقة مع روسيا نجد توجهين هما:

- من يرى في ترامب أصلاً أو ذخراً لروسيا Asset.

- من يرى ترامب عميلاً لروسيا Agent.

ويميز أحد رواد هذا الموضوع بين الذخر أو الأصل وبين العميل، بأن الأول يعني استغلال دولة معينة "لنفوذ ومكانة شخص ما" في دولة أخرى للوصول لأهداف محددة من خلال ذلك الفرد، بينما العميل هو شخص يدرك بأنه يقدم معلومات حساسة أو سرية أو يتخذ مواقف غير مألوفة حول قضايا معينة استجابة لطلب من طرف آخر مقابل منافع معينة.

الفرضية الثالثة: إضعاف الصين:

تدل أدبيات ترامب السياسية على نزوع حادٍ للعمل ضدّ الصين، لذا فإن تقربه من روسيا يستهدف الإضرار بالصين طبقاً لهذه الفرضية، وتبدو توجهات ترامب في المظاهر التالية:

- نزوعه لجلب المزيد من القوات الأمريكية من الخارج لتحويل المواجهة مع روسيا باتجاه التضييق على الصين. وهو ما يعيد إلى الاذهان محاولة الثنائي نيكسون Nixon وكيسنجر Kissinger التقارب مع الصين للتضييق على الاتحاد السوفييتي في فترة سبعينيات القرن الماضي. ويبدو أن ترامب يعتقد أن تخفيف أعباء المواجهة مع روسيا في أوكرانيا أو غيرها من المناطق يسهل على الولايات المتحدة إدارة معركتها القادمة مع الصين.

- تشير العلاقات الروسية الصينية، خلال الفترة من سنة 2000 إلى الآن، إلى تطور واسع في العلاقة الروسية الصينية، فالتجارة بين البلدين تضاعفت تقريباً خلال فترة حكم الديموقراطيين 2020-2024، ويرى البعض أن ترامب يسعى للتأثير على تطور العلاقة الروسية الصينية من خلال منع هذا التطور من إضعاف المكانة الأمريكية في النظام الدولي وتكريس مركزيتها.

- الافتراض بأن موسكو ربما تكون على استعداد لتعديل علاقاتها مع بكين، في ظلّ الحوافز المناسبة. ولكن هذا الافتراض ليس قوياً، فخلافاً لما كانت عليه الحال في أثناء الحرب الباردة، عندما كانت الخلافات الأيديولوجية تفصل بين الصين والاتحاد السوفييتي، فإن الشراكة الروسية الصينية اليوم مبنية على المعارضة المشتركة للهيمنة الغربية، ويستفيد البلدان من التعاون الاقتصادي، والتدريبات العسكرية المشتركة، والتنسيق الديبلوماسي في المؤسسات المتعددة الأطراف مثل مجموعة البريكس BRICS ومنظمة شنجغاي للتعاون Shanghai Cooperation Organization. ونظراً لهذه الحقائق، فإن احتمالات تخلي روسيا عن علاقاتها الوثيقة مع الصين في مقابل تنازلات أمريكية غير مؤكدة تظل ضئيلة.

الخلاصة:

تبدو الفرضية الثالثة "فكّ العلاقة الروسية الصينية" هي الأضعف بين الفرضيات الثلاث، بينما تتوازى الفرضيتان الأخريان في وجاهة ركائزهما، فالفرضية الأولى المتمثلة في النزعة الوطنية واضحة المعالم في توجهات ترامب، ويشاطره قطاع مهم من المجتمع الأمريكي في العداء للعولمة، ويبدو أن النزعة البراغماتية في العقل الأمريكي تُعزِّز هذه الفرضية. لكن معطيات الفرضية الثانية، سواء أكانت بالمؤامرة أم بالتواطؤ، تمتلك شواهد ليس من اليسير رفضها، خصوصاً أنها من مصادر مختلفة، وذات معطيات يمكن أن يتم تبنيها، وتتعزز احتمالات هذه الفرضية بالمؤشرات العديدة التي أوردناها، خصوصاً طبيعة البناء السيكولوجي لترامب (النرجسية، وجنون العظمة، وارتفاع نسبة الكذب لديه، ثم ليس للقيم الأخلاقية أيّ قيمة لديه) من ناحية، كما أن الجهات التي تتبنى نظرية المؤامرة أو التواطؤ من ناحية ثانية هي جهات رسمية وأمنية وأكاديمية وقضائية محلية ودولية، كما أن الارتباك الذي صنعه ترامب من ناحية ثالثة في التحالف الغربي، واستعداء دولٍ مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والدنمارك والمكسيك وجنوب إفريقيا…إلخ لا يجوز الاستهانة بدلالاته.

من جانب آخر، تميل التوجهات الروسية، ربما لدوافع ذاتية، إلى عدم المبالغة في "التحول" الأمريكي، خصوصاً أنّ القوى المعادية لروسيا في أوساط الحزب الجمهوري وبين الديموقراطيين والدوائر الاستخبارية تُلجم أي محاولة من ترامب للجموح في توجهاته نحو روسيا، ناهيك عن أنّ فترة ترامب لا تتجاوز 4 أعوام، وهي فترة قد لا تكفي للتحول الاستراتيجي في مجتمع مؤسسي كالولايات المتحدة.

ولعل العامل المشترك في كلّ ما تَمَكَّنتُ من الاطلاع عليه هو توصيف ترامب بأنه شخص يصعب التنبؤ بردات فعله، فهو طبقاً لأغلب الدراسات حوله شخص Unpredictable، وهو ما قد ينطوي على احتمال وقوع مفاجآت مختلفة لترامب نفسه أو لحكومته أو للمجتمع الأمريكي ذاته.

لتحميل الدراسة من هنا


المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

الكاتب: أ. د. وليد عبد الحي




روزنامة المحور