الإثنين 26 أيار , 2025 02:34

الشرعية تحت المقصلة: كيف تنقلب أوروبا على إسرائيل؟

خريطة أوروبا والمظاهرات المؤيدة لفلسطين

منذ ما يزيد عن 19 شهرًا، تخوض "إسرائيل" حرب إبادة مفتوحة ضد سكان قطاع غزة. لم تعد المسألة مجرد "عملية عسكرية" أو حق في الدفاع عن النفس"، بل تحوّلت إلى اختبار شامل لفكرة "الشرعية الغربية"، وللعقيدة التي لطالما غلّفت الاستعمار الحديث بلغة "التحضّر وحقوق الإنسان".

لكن، ما الذي تغير؟ لماذا تبدو أوروبا، الحليف التاريخي لـ"إسرائيل"، وكأنها تسحب الغطاء تدريجيًا عن مشروعها العتيق في قلب الشرق الأوسط؟ ولماذا تطفو مصطلحات من قبيل "الإبادة"، "التجويع"، و"الترحيل القسري" على لسان قادة الغرب الذين كانوا حتى الأمس القريب يصفقون لنتنياهو ويحمون جرائمه؟

من "المهمة الحضارية" إلى الإدانة: تفكك الخطاب الاستعماري

لأكثر من سبعة عقود، أدارت أوروبا علاقتها بـ"إسرائيل" كامتداد استعماري عضوي داخل نسيج المنطقة العربية، مُغلِّفة دعمها العسكري والاقتصادي والسياسي لها بخطاب "التكفير" عن الذنب النازي، و"حماية الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". غير أن الحرب على غزة، بكل ما رافقها من قتل وتدمير واسع للأطفال والمستشفيات والمدارس، فجّرت التناقضات الداخلية لهذا الخطاب.

تأتي التحركات الأوروبية اليوم—من تعليق اتفاقيات التجارة، إلى فرض العقوبات، وصولًا إلى الاعتراف المزمع بدولة فلسطين—ليس فقط كرد فعل على "وحشية مفرطة"، بل كمحاولة استباقية لتقويض موجة غضب شعبي تهدد بتفجير الإجماع الداخلي في هذه الدول نفسها.

بكلمات أخرى، لا تدين أوروبا "إسرائيل" لأنها تقتل المدنيين، بل لأنها تفعل ذلك بفظاعة مفرطة بات من المتعذر التستر عليها أمام شعوبها، وتحديدًا أمام الأجيال الشابة التي باتت ترى "إسرائيل" على حقيقتها: مشروعًا استيطانيًا عنصريًا فاشيًا.

دبلوماسية مكرّسة للإبادة: حين تسقط الأقنعة

لطالما استخدم الغرب المؤسسات الدولية لإضفاء شرعية على السياسات القمعية في فلسطين. ولكنّ اتساع رقعة التهجير، والتصريحات الفاشية من قادة الاحتلال—من سموتريتش إلى بن غفير—حول "القضاء على حماس" وتجويع سكان غزة، جعلت من الصعب الحفاظ على صمت ناعم.

حين يعلن وزراء خارجية دول كألمانيا وفرنسا وبريطانيا أن "الحصار غير أخلاقي"، أو حين يصف رئيس وزراء إسبانيا "إسرائيل” بـ”دولة الإبادة"، فنحن لا نشهد صحوة ضمير فجائية بقدر ما نشهد أزمة بنيوية داخل النظام الليبرالي الغربي الذي بات عاجزًا عن حماية "الواجهة الديمقراطية" لأكثر المشاريع الاستعمارية وحشيةً.

هذه لحظة انكشاف خطيرة: فحين تعجز أوروبا عن التبرير، وتضطر إلى تعليق اتفاقيات وتجميد علاقات، فإنها لا تفعل ذلك بدافع التضامن، بل خشية انفجار الداخل.

الاقتصاد الأخلاقي والمعركة على الرواية

الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لـ"إسرائيل"، والمجتمع المدني الأوروبي، من نقابات وطلاب وأكاديميين، بات أكثر حساسية تجاه العلاقة مع كيان يقوم على الإبادة والفصل العنصري. لا يمكن فصل التبدل في المواقف عن التغيرات في البنية الثقافية والأخلاقية للمجتمعات الأوروبية التي لم تعد تتقبل التواطؤ باسم "محاربة الإرهاب".

أوروبا الآن في مأزق مزدوج: فهي تخشى على مصداقيتها الأخلاقية، وفي الوقت نفسه تخشى تفكك سردية "الاستثناء الإسرائيلي" التي لطالما دعمتها كجزء من رواية الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط.

ترامب، نتنياهو، وحرب الجنون المُسلّح

التحركات الأوروبية لا يمكن قراءتها بمعزل عن التصدعات داخل المعسكر الغربي. فالإدارة الأميركية الحالية، بقيادة دونالد ترامب، ليست أقل دعمًا لـ"إسرائيل"، ولكنها أقل انضباطًا في إدارة ذلك الدعم، وأكثر استعدادًا لعقد الصفقات المصلحية مع قوى غير حكومية، بمن فيها "حماس".

أوروبا، من جهتها، ترى في ترامب تهديدًا لاستقرارها كما ترى في نتنياهو تهديدًا لصورتها. فالتقارب "الإسرائيلي – الترامبي – اليميني"، وامتداد الحرب إلى لبنان وسوريا، وتحويل الإقليم إلى ساحة اختبار للصواريخ والصفقات، يتعارض مع مصالح أوروبا الاستراتيجية ويهدد أمنها الطاقوي والسياسي.

من هنا، فإن "البطاقة الحمراء" الأوروبية "لإسرائيل"، هي بطاقة صفراء مزدوجة أيضًا ضد ترامب وسياساته الفوضوية.

الهبة الطلابية: عندما تتكلم القواعد الشعبية

لا يمكن التقليل من أهمية الحراك الطلابي في الولايات المتحدة وأوروبا. ففي ظل العجز الرسمي، باتت الجامعات فضاءات مقاومة جديدة، تُسائل البنية العميقة للاستعمار، وتربك قادة الغرب بتحديها المتصاعد.

عندما يقوم شخص مثل إلياس رودريغيز، ليس عربيًا ولا مسلمًا، بعملية إطلاق نار احتجاجية ضد السفارة "الإسرائيلية"، ويشرح فعلته بلغة حقوقية وإنسانية، فإننا لا نكون أمام "حادث معزول"، بل أمام إشارات إلى احتضار الشرعية الأخلاقية للمنظومة الغربية.

فالغرب، الذي اعتاد تصدير الحروب وتبييض الاستعمار، يواجه اليوم انفجارًا داخليًا في ثقافته، وانقلابًا جذريًا على سرديته.

الموقف العربي: صمت استراتيجي أم تواطؤ تاريخي؟

لا معنى لأي ضغط غربي دون موقف عربي واضح. وفيما تغيب المبادرات العربية المؤثرة، ويواصل البعض التطبيع، يظهر مدى فداحة الانهيار الرسمي العربي الذي يراهن فقط على الوسيط الأميركي، رغم علمه أن هذا الوسيط جزء من آلة الحرب لا طرف محايد.

فبذلك، يمكن القول إن الصمت العربي ليس فقط نوعًا من التواطؤ، بل هو جزء من منظومة السيطرة التي تتيح استمرار الإبادة، حيث يتم اختزال القضية في مفاوضات شكلية أو مشاريع "إغاثة" لا تمس جوهر الاحتلال.

ماذا بعد؟

التحول في الموقف الأوروبي ليس نهاية الطريق، بل بدايته. ولن تُوقف الحرب بمجرد بيانات رسمية أو عقوبات جزئية. المطلوب هو تحوّل جذري في البنية الدولية التي تمنح "إسرائيل" حصانتها.

إذا كانت أوروبا جادة في "منع الإبادة"، فإن عليها سحب شرعية الاحتلال لا تجميل صورته. عليها أن تعترف لا فقط بدولة فلسطين، بل أيضًا بأن المشروع الاستعماري "الإسرائيلي" لا يمكن إصلاحه، بل يجب تفكيكه.

إنها اللحظة المناسبة لإعادة تعريف السياسة الخارجية الغربية: ليس فقط كعلاقات مصالح، بل كموقع أخلاقي وسياسي في مواجهة آخر الحروب الاستعمارية.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور