يشكّل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي أحد أكثر النزاعات استعصاءً وتعقيدًا في النظام الدولي منذ منتصف القرن العشرين، وقد ارتبطت به تفاعلات دولية وإقليمية كبرى شكّلت اختبارًا مستمرًا لصدقية النظام العالمي وفعالية القانون الدولي. في هذا السياق، برز الاتحاد الأوروبي - والدول الأوروبية الكبرى - باعتبارهم فاعلين محوريين، يُفترض أنهم يتمتعون بالإمكانات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية لتأدية دور متوازن ومسؤول في إدارة هذا الصراع. غير أن الواقع العملي يكشف عن فجوة حادّة بين الخطاب الأوروبي، الذي يدّعي الالتزام بالشرعية الدولية، وبين الممارسة الفعلية التي تتأرجح بين الحذر والتواطؤ.
ترتكز هذه الورقة المرفقة أدناه، إلى تحليل الأداء الأوروبي تجاه إسرائيل من حيث المواقف، الدوافع، الإجراءات الشكلية والحقيقية، والتوازن بين تأثير اللوبيات الصهيونية والضغوط الشعبية الداخلية. وتستند إلى فرضية مركزية مفادها أن أوروبا، برغم إعلانها المتكرر دعم "حل الدولتين" و"السلام العادل"، إلا أنها في الغالب مارست سياسات تفتقر إلى الحزم، وأدّت وظيفيًا إلى تثبيت اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل، من خلال استمرار العلاقات الاقتصادية والعسكرية، وغياب العقوبات، والانخراط في مقاربات إنسانية تفصل بين "الاحتلال" و"الاحتياجات"، وتُغفل البعد السياسي للصراع.
وتحاول هذه الورقة التمييز بين مستويين من الأداء الأوروبي:
- المستوى الجماعي: الذي يتمثّل في مواقف وسياسات الاتحاد الأوروبي كمؤسسة فوق وطنية، والذي غالبًا ما يُقيّد بآليات الإجماع، ما يجعله عاجزًا عن اتخاذ قرارات نوعية في ظل انقسام الدول الأعضاء حول إسرائيل.
- المستوى الوطني: حيث تختلف السياسات بين دول تتخذ مواقف نقدية نسبية تجاه الاحتلال الإسرائيلي (مثل إيرلندا، السويد، بلجيكا)، وأخرى تُقدّم دعما غير مشروط لإسرائيل (مثل ألمانيا والمجر)، في حين تتخذ دول مثل فرنسا وإيطاليا مواقف رمادية تتسم بالبراغماتية والارتباط الوثيق بمصالحها الجيوسياسية.
من هنا، تهدف هذه الورقة إلى:
- تحليل محددات السياسات الأوروبية تجاه الكيان الصهيوني، بما في ذلك الضغوط الداخلية (المجتمع المدني، الرأي العام، الإسلاموفوبيا) والخارجية (العلاقة مع واشنطن، واللوبيات الصهيونية، والمصالح التجارية).
- تفكيك الخطاب الأوروبي الرسمي ومقارنته بالإجراءات العملية (تمويل الاحتلال، مبيعات السلاح، اتفاقيات الشراكة).
- تقديم دراسة حالة مفصلة لكل دولة أوروبية رئيسية، تشمل موقفها الرسمي، سلوكها التصويتي، علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، وحدود الدعم أو المعارضة للحقوق الفلسطينية.
- تقييم الأداء الأوروبي الجماعي، خصوصًا في المحطات الحاسمة كحروب غزة (2008، 2014، 2021، و2023–2024)، وقرارات مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، و"صفقة القرن"، ومواقف الاتحاد الأوروبي من المحكمة الجنائية الدولية.
تتناول هذه الورقة الفجوة بين الالتزام الخطابي والممارسة السياسية، وتقدّم تفكيكًا معمّقًا لموقع أوروبا ضمن معادلة الصراع، ليس فقط كوسيط أو مانح، بل كطرف فعلي يملك القدرة على التأثير – أو الامتناع عنه – وبالتالي يتحمّل مسؤولية سياسية وأخلاقية في مآلات الصراع. كما أن النتائج المتوقعة تسهم في فهم التحولات البنيوية في السياسة الخارجية الأوروبية، وعلاقتها بمنظومة القيم، وموقع القضية الفلسطينية داخل هذا الإطار المتشابك.
تُبرز هذه الورقة ثلاث نتائج تحليلية مركزية:
أولاً: أوروبا كقوة خطابية أكثر منها قوة فاعلة: رغم امتلاك الاتحاد الأوروبي أدوات ضغط معتبرة (اقتصادية، قانونية، دبلوماسية)، فإن التردد في استخدامها أفقده تأثيره الفعلي في مسار الصراع. أوروبا تُعبّر عن "عدم الرضا"، لكنها نادرًا ما تتجاوز العتبة الرمزية إلى الفعل السياسي المؤثر، مما أضعف صورتها كوسيط محايد أو فاعل نزيه.
ثانيًا: غياب الحياد الأوروبي عمّق اختلال موازين القوى: بدلًا من لعب دور موزون بين الطرفين، أضفت أوروبا ـ من خلال دعمها السياسي غير المشروط لإسرائيل في أوقات الحرب، أو عبر تبريرها لسياسات أمنية قمعية ـ شرعية ضمنية على الاحتلال، مما زاد من تفاقم معاناة الفلسطينيين، وأعاق أي تسوية عادلة.
ثالثًا: الدور الأوروبي لا يزال مرتهنًا للضغوط الداخلية والخارجية: سواء تعلق الأمر بالخوف من "اتهامات معاداة السامية"، أو التحالفات مع واشنطن، أو اعتبارات الطاقة والتجارة، فإن السياسات الأوروبية تُبنى غالبًا على أساس براغماتية ضيقة لا على أساس المبادئ التي تدّعي الدفاع عنها.
لتحميل الدراسة من هنا