لم تكن الهجمات التي نفذتها القوات المسلحة اليمنية ضد السفن الأمريكية في البحر الأحمر مجرّد تحدٍّ عسكري، بل شكّلت اختباراً ميدانياً لفعالية النظام السيبراني الأمريكي في بيئة مواجهة غير تقليدية، كشف عن ثغرات أعمق مما تُظهره البيانات العسكرية. وكانت القوات المسلحة اليمنية قد أعلنت إسنادها لغزة من البحر الأحمر، من خلال فرض الحظر على جميع السفن المتجهة إلى كيان الاحتلال. وبعد التصعيد الأمريكي المباشر ضد اليمن، توسّعت طبيعة الاشتباك، لتتحوّل إلى مواجهة مفتوحة مع الأسطول الأمريكي نفسه، عبر استهداف مباشر للحاملات والمواقع الأمريكية في البحر الأحمر. وقد أسفرت هذه المواجهة عن خسائر ملحوظة فمنذ آذار2025، خسر الجيش الأمريكي في أجواء اليمن سبع طائرات من طراز "ام كيو 9" حيث تبلغ قيمة الواحدة منها نحو 30 مليون دولار.
البحر الأحمر: ميدان اختبار غير تقليدي
مثّل البحر الأحمر خلال الأشهر الماضية ميداناً غير تقليدي لاختبار القدرات العسكرية والسيبرانية الأمريكية في وجه التهديدات. فقد اعتمدت القوات المسلحة اليمنية على تكتيكات متنوعة جمعت بين الصواريخ الدقيقة، الطائرات المسيّرة، تقنيات التشويش، وتعطيل الأنظمة، في مواجهة مباشرة مع الأسطول الأمريكي. خلال قرابة عامين، شكلت هجمات أنصار الله بالطائرات المسيّرة والصواريخ تهديداً متصاعداً للملاحة التجارية وللأصول البحرية الأمريكية. وعلى الرغم من إيقاف الاستهداف المباشر مؤخراً بموجب الاتفاق الذي عقده ترامب مع اليمن بعد التهديد الفعلي الذي لمسه، إلا أن القيادة المركزية الأمريكية حذرت من أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار؛ إذ إن استمرار الإنفاق على منظومات دفاعية باهظة الثمن لاعتراض تهديدات منخفضة الكلفة يخلق فجوة استراتيجية ومالية يصعب تجاوزها. لا تقتصر الفجوة على الكلفة فحسب، بل تتعداها إلى البنية السيبرانية نفسها، حيث يفتقر الجيش الأمريكي حتى اللحظة إلى برمجيات ذكاء اصطناعي قادرة على التنبّه للهجمات وتحديد مواقعها والتعامل معها بالسرعة والمرونة المطلوبة. وقد عرّت المواجهة مع اليمن محدودية المنظومة الأمريكية في بيئة تتطلب قدرات تحليل لحظي للبيانات.
الثغرات السيبرانية في المعركة: ما الذي كشفه اليمن؟
كشفت الاشتباكات في البحر الأحمر عن ثغرات بنيوية في المنظومة السيبرانية الأمريكية، خاصة على مستوى تكامل أنظمة الاستشعار والاستجابة. فرغم اعتماد أمريكا على أنظمة الرادار المتقدم، وأدوات ذكاء اصطناعي في الرصد المبكر، فإن عدداً من الهجمات اليمنية نجح في اختراق الدفاعات، ما يؤشر إلى خلل في التنسيق بين الرصد والتفعيل "الدفاعي". في عدة مناسبات، فشلت أنظمة الرد الذكية في اعتراض الهجمات أو تأخرت في ذلك، بما في ذلك تلك التي استخدمت فيها أدوات بسيطة تقنياً، كالطائرات المسيّرة المحلية أو الاستهداف الذي تم من ارتفاع منخفض التي تفلت من تغطية الرادارات. هذا النوع من الاستهداف لا يبرز فقط ذكاء أنصار الله، بل يكشف ضعف قدرة المنظومة الأمريكية على التعامل مع أنماط غير تقليدية. وما يثير القلق داخل الكونغرس، هو أن هذه الثغرات لا تقتصر على البحر الأحمر، بل قد تنسحب على جبهات أخرى أكثر تعقيداً، كالمحيط الهادئ إذا ما تطورت المواجهة مع الصين. فالعجز عن صد هجمات اليمن، يثير تساؤلات عن الجاهزية أمام قوى تملك موارد تكنولوجية وصناعية ضخمة.
من اليمن إلى الصين: القلق الأمريكي يتسع
إذا كانت القوات المسلحة اليمنية، بمواردها المحدودة وقدراتها المحلية، قد نجحت في إرباك المنظومة العسكرية الأمريكية في البحر الأحمر، فإن حجم القلق داخل الولايات المتحدة يتضاعف عند التفكير في مواجهة محتملة مع قوة كبرى مثل الصين. فبخلاف اليمن، تمتلك الصين بنية سيبرانية متطورة، وأنظمة تشويش وتوجيه، وقوة تصنيعية ضخمة تجعل من الاشتباك معها تحدياً أصعب. هذا الواقع دفع صناع القرار في واشنطن إلى الإقرار بأن البنية الرقمية العسكرية الحالية لا تواكب التحوّلات المتسارعة في ميدان الحرب. وبالتالي، لم يعد ممكناً تجاهل الثغرات التي كشفتها مواجهة البحر الأحمر. وهنا نشير إلى المقترح الجديد المقدم من النائب بات فالون في الكونغرس، تحت عنوان "فايلور أكت". حيث ينص المشروع على سد الفجوات التقنية في النظام "الدفاعي الأمريكي"، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتكامل أنظمة الرد، والرصد الإلكتروني. كما يدعو إلى توسيع التعاون بين البنتاغون والقطاع الخاص، في محاولة لتسريع وتيرة التطوير التكنولوجي العسكري، بما يمكّن الجيش من مواجهة التهديدات غير التقليدية بكفاءة أعلى.
الاختبار الميداني الذي خاضته الولايات المتحدة في مواجهة قوة متمرسة في الحروب غير المتكافئة مثل اليمن، لم يكتفِ بكشف ثغرات منظومتها السيبرانية والدفاعية فحسب، بل جعلها تعيد تقييم استراتيجياتها وأدواتها دفاعاً عن مصالحها مستقبلاً في مواجهة خصوم أكثر تعقيداً وقوة.
الكاتب: غرفة التحرير