الخميس 19 حزيران , 2025 03:44

مرحلة عض الأصابع.. "الإغراق الصاروخي" الإيراني مقابل فشل الصواريخ الاعتراضية

الصواريخ الإيرانية والدفاعات الإسرائيلية

تحولت السماء فوق الكيان المؤقت إلى ساحة معركة يومية، حيث تطلق إيران رشقات صاروخية مكثفة ضمن تكتيك مدروس يعرف بـ "الإغراق الصاروخي". يهدف هذا التكتيك إلى إطلاق عدد كبير من الصواريخ والطائرات المسيرة في موجات متتالية ومتزامنة، بشكل يتجاوز قدرة شبكة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية على التعامل معها. يصل معدل الإطلاق اليومي إلى ما يقرب من 65 صاروخًا باليستيًا، تستهدف بشكل مباشر المراكز العسكرية والأمنية والاقتصادية الحيوية في تل أبيب وحيفا والقدس وبئر السبع، بهدف شل الحياة اليومية وفرض ضغط نفسي هائل على المجتمع الإسرائيلي وقيادته السياسية. ولم تعد تقتصر الاستراتيجية الإيرانية على الكم، بل بدأت تتجاوزه إلى النوع، حيث أدخلت إلى المعركة أسلحة متطورة لم تستخدم من قبل.

لقد أكد الحرس الثوري الإيراني استخدام صواريخ "فتاح" الفرط صوتية، التي تشكل تحديًا كبيرًا لأنظمة الرادار والاعتراض التقليدية بسبب سرعتها العالية وقدرتها على المناورة. كما تم استخدام صواريخ "سجيل" الثقيلة وبعيدة المدى، وطائرات مسيرة انقضاضية مزودة برؤوس حربية خارقة للتحصينات، مما يضيف طبقة جديدة من التعقيد على التهديد الذي تواجهه إسرائيل. لقد أثبت هذا النهج فعاليته، حيث نجحت الصواريخ الإيرانية مراراً في اختراق الدفاعات الإسرائيلية، مسببةً دماراً كبيراً وخسائر بشرية، بما في ذلك إصابة أهداف أمنية وعسكرية حساسة في بئر السبع وأهداف اقتصادية رئيسية كمبنى البورصة في رامات غان واختراق ملاجئ للاستخبارات العسكرية يفترض أنها محصنة.

هذا الوضع يضع شبكة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية، درة الصناعة العسكرية، في قلب الأزمة. فهذه الشبكة المعقدة ومتعددة الطبقات، والمكونة من "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود" و"آرو 2 و3"، تتعرض لعملية استنزاف ممنهجة على مدار الساعة. التقارير الاستخباراتية الأمريكية والإسرائيلية المشتركة ترسم صورة قاتمة للوضع الميداني؛ فالطبقة العليا للدفاع، المتمثلة في صواريخ "آرو-3" الباهظة الثمن والمصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي، تشهد نفادًا سريعًا في مخزوناتها، مع تقارير تؤكد أن استخدامها أصبح يقتصر على حماية الأصول الأكثر حيوية فقط. ومع تآكل هذه الطبقة، يتزايد العبء بشكل هائل على منظومة "مقلاع داوود" التي باتت تتحمل وحدها تقريباً مسؤولية الدفاع عن المراكز الرئيسية، مثل تل أبيب.

تعاني هذه المنظومة من إرهاق عملياتي شديد، حيث تتجاوز دورات الاشتباك المستمرة قدرتها على إعادة التموين بالصواريخ الاعتراضية، والتي لا تصل بكميات كافية لتعويض الاستهلاك الهائل. تتفاقم الأزمة مع ظهور علامات واضحة على التدهور الفني، حيث تشير التقارير إلى تزايد حالات الأعطال في الصواريخ الاعتراضية، وحالات إجهاض للاعتراض في منتصف المسار، وتأخر في الإطلاق، وأخطاء في تصنيف الرؤوس الحربية القادمة من قبل الرادارات. إن إطلاق ما يصل إلى 12 صاروخًا اعتراضيًا لمواجهة تهديد واحد، كما تظهر بعض الصور، لا يعكس قوة النظام، بل هو مؤشر على تدهور "احتمالية التدمير" لكل صاروخ، وقلق متزايد لدى المشغلين من موثوقية النظام تحت هذا الضغط غير المسبوق. هذا الوضع يؤدي إلى استنزاف المخزون المحدود بمعدل ينذر بالخطر، ويجعل انهيار الشبكة الدفاعية ليس مجرد احتمال نظري، بل حقيقة عملياتية تتكشف يوماً بعد يوم.

بالتوازي مع هذه المواجهة العسكرية المباشرة، تدور حرب ظل استخباراتية لا تقل أهمية. فبينما تحاول إسرائيل زعزعة استقرار النظام الإيراني من الداخل، تشن أجهزة الأمن الإيرانية حملة مضادة واسعة. يتم الإعلان بشكل شبه يومي عن اعتقال خلايا مرتبطة بجهاز الموساد الإسرائيلي في محافظات إيرانية مختلفة، وإحباط عمليات تخريبية كانت تستهدف بنى تحتية حيوية أو مناطق مكتظة بالسكان. كما تكشف السلطات الإيرانية عن ورش سرية لتصنيع وتخزين الطائرات المسيرة والمتفجرات، في محاولة لتجفيف منابع التهديد الأمني الداخلي. وعلى الصعيد الدفاعي، تعلن إيران بشكل متكرر عن نجاح دفاعاتها الجوية في إسقاط طائرات مسيرة إسرائيلية متطورة، مثل طائرة "هرمز"، كرسالة ردع للخصم.

في المحصلة، الوضع الميداني في منتصف يونيو 2025 هو حالة من اختلال التوازن الذي يميل تدريجيًا لصالح استراتيجية الاستنزاف الإيرانية. إسرائيل، رغم قدرتها الجوية، تجد نفسها في مأزق استراتيجي؛ فحملتها الجوية لم تنجح في وقف التهديد الصاروخي، بل ورطت البلاد في حرب دفاعية مكلفة ومرهقة على جبهتها الداخلية. إن تآكل شبكة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية، وفشلها في توفير حماية كاملة للمدن، يمثل نقطة ضعف قاتلة في الموقف الإسرائيلي. إذا استمرت وتيرة العمليات الحالية دون وصول إمدادات عسكرية أمريكية عاجلة وكبيرة من الصواريخ الاعتراضية، فإن قدرة إسرائيل على حماية بناها التحتية ستتدهور بشكل متسارع، مما يضع قيادتها أمام خيارات بالغة الصعوبة: إما تصعيد دراماتيكي للمواجهة قد يهدف إلى جر الولايات المتحدة إلى الحرب بشكل مباشر، أو القبول بحقيقة أن ميزان الردع قد تغير، والبحث عن مخرج سياسي يوقف هذا النزيف الاستراتيجي الخطير.

تحليل تكتيكات وأداء الطرفين:

تناقص الدفاعات الجوية كتعبير عن فشل التكتيك الدفاعي الإسرائيلي؟

إن الحديث عن "فشل" يتطلب دقة في التوصيف. ما نشهده ليس فشلاً تكنولوجيًا في الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية بحد ذاتها، فهذه الأنظمة (القبة الحديدية، مقلاع داوود، آرو) تظل من بين الأكثر تطورًا وفعالية في العالم على المستوى التكتيكي الفردي. ما يحدث هو انكشاف لضعف استراتيجي عميق يتم استغلاله ببراعة من خلال التكتيكات الإيرانية.

أولاً: جوهر المشكلة - حرب الاستنزاف الاقتصادي واللوجستي

يكمن جوهر المشكلة في التباين الهائل في التكلفة والكمية بين الهجوم والدفاع. العقيدة الدفاعية الإسرائيلية تعتمد على أنظمة متطورة جدًا ولكنها باهظة الثمن ومحدودة العدد. تكلفة الصاروخ الاعتراضي الواحد من منظومة "مقلاع داوود" أو "آرو" تتراوح بين مليون وعدة ملايين من الدولارات. في المقابل، تكلفة الصاروخ الباليستي الإيراني أو الطائرة المسيرة أقل بكثير.

لقد أدركت إيران هذه المعادلة وحولتها إلى استراتيجية مركزية. التكتيك الإيراني لا يهدف بالضرورة إلى أن يصيب كل صاروخ هدفه، بل يهدف إلى إجبار إسرائيل على إطلاق صواريخها الاعتراضية الثمينة. كل عملية اعتراض ولو كانت ناجحة من الجانب الإسرائيلي هي في الوقت نفسه استنزاف لمخزونه الاستراتيجي. وبهذا المعنى، تحول إيران كل نجاح تكتيكي إسرائيلي إلى خطوة أقرب نحو فشل استراتيجي متمثل في نفاد الذخيرة. معدل إطلاق 65 صاروخًا باليستيًا يوميًا، هو معدل استهلاك لا يمكن لأي دولة، مهما كانت متقدمة، أن تواكبه من خلال الإنتاج المحلي أو حتى الإمدادات الخارجية السريعة.

ثانيًا: نجاح تكتيك "الإغراق الصاروخي" الإيراني

إن تناقص المخزون الإسرائيلي هو الدليل القاطع على نجاح التكتيك الإيراني القائم على "الإغراق" أو "الإشباع". هذا التكتيك مصمم خصيصًا لاستغلال نقطة ضعف أي نظام دفاعي، وهي قدرته المحدودة على التعامل مع عدد كبير من التهديدات المتزامنة.

1. تجاوز قدرة النظام: من خلال إطلاق رشقات كثيفة ومتتالية من الصواريخ والمسيرات، تضع إيران شبكة القيادة والسيطرة الإسرائيلية تحت ضغط هائل. يجب على الرادارات أن تتبع عشرات الأهداف، ويجب على أجهزة الكمبيوتر أن تحللها وتصنفها وتقيم درجة خطورتها، ثم تخصص الصواريخ الاعتراضية المناسبة لها، كل هذا في غضون دقائق أو حتى ثوانٍ. عندما يتجاوز عدد التهديدات قدرة النظام على المعالجة، يبدأ بالانهيار.

2. استنزاف الطبقات الدفاعية: التكتيك الإيراني يستهدف بذكاء بنية الدفاع الإسرائيلي متعدد الطبقات. بإطلاق صواريخ باليستية بعيدة المدى، يتم إجبار إسرائيل على استهلاك صواريخ "آرو" النادرة. ومع نفادها، تنتقل المهمة إلى "مقلاع داوود"، الذي يستهلك مخزونه بدوره. هذا التأثير المتتالي يعني أن كل طبقة دفاعية تنهار تزيد العبء على الطبقة التي تليها، حتى تصل التهديدات في النهاية إلى "القبة الحديدية" أو تخترق الشبكة بالكامل.

3. خلق حالة من عدم اليقين: إن استخدام أسلحة جديدة مثل الصواريخ الفرط صوتية "فتاح" يزيد من تعقيد المشهد الدفاعي. هذه الصواريخ قد لا تكون أنظمة الدفاع الحالية مهيأة للتعامل معها بفعالية، مما يجبر المشغلين الإسرائيليين على إطلاق عدة صواريخ اعتراضية على هدف واحد - لزيادة فرصة تدميره. هذا الإجراء، وإن كان مفهوماً من الناحية التكتيكية، فإنه يسرّع من عملية استنزاف المخزون بشكل كارثي.

هل فشل التكتيك الإسرائيلي؟

يمكن القول إن التكتيك الدفاعي الإسرائيلي، الذي يعتمد على التفوق التكنولوجي كحل شامل، أظهر فشلاً في مواجهة استراتيجية الاستنزاف الإيرانية. الفشل ليس في أداء الصاروخ الاعتراضي، بل في استدامة العقيدة الدفاعية بأكملها.

لقد افترضت إسرائيل أن جودتها التكنولوجية ستتفوق دائماً على كمية أسلحة أعدائها. لكن إيران أثبتت أن الكمية، عندما تستخدم بتكتيك ذكي، يمكن أن تتحول إلى "جودة" استراتيجية بحد ذاتها، قادرة على إرهاق وتجاوز أكثر الأنظمة تطوراً.

إن تناقص الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية هو العرض الأكثر وضوحاً لهذا الفشل الاستراتيجي. لقد تحولت المعركة من مواجهة بين صاروخ وصاروخ، إلى مواجهة بين مصانع إيران وقدرتها على الإطلاق، مقابل مخزونات إسرائيل وخطوط إمدادها من الولايات المتحدة. وفي هذه المواجهة اللوجستية، تبدو إيران حالياً هي الطرف الذي يمتلك زمام المبادرة. لقد كشفت هذه الحرب أن الدرع الأكثر تطوراً له حدود، وأن الاعتماد عليه بشكل حصري دون القدرة على شل قدرة العدو على الإطلاق بشكل كامل ومستدام، هو استراتيجية محكوم عليها بالفشل في حرب استنزاف طويلة.

تقدير للأحداث في 17 و18 يونيو 2025

تمر المواجهة بنقطة تحول حرجة. استراتيجية الاستنزاف الإيرانية تحقق نجاحاً ملموساً في إرهاق الدفاعات الإسرائيلية، بينما تواجه إسرائيل ضغوطاً متزايدة على جبهتها الداخلية وخياراتها تتضاءل. الموقف يتجه حتماً نحو تصعيد كبير في الساعات الـ 48 القادمة.

السيناريوهات والتوجهات المحتملة:

على الصعيد الإسرائيلي:

أ‌- تكثيف الهجوم كخيار وحيد: مع تآكل قدرتها الدفاعية بشكل متسارع ("انهيار الطبقتين العليا والمتوسطة أصبح ملحوظاً")، لن يكون أمام إسرائيل خيار سوى تصعيد هجومها بشكل كبير جداً. من المتوقع أن تنتقل من ضربات نوعية إلى محاولة إحداث دمار واسع في البنية التحتية الإيرانية (منشآت وبنى تحتية مدنية – مرافق سكانية مدنية - محطات طاقة- مصافي نفط- شبكات اتصالات) بهدف إجبار طهران على وقف هجماتها.

ب‌- التركيز على هدف "فوردو": ستصبح عملية ضرب منشأة فوردو النووية أولوية قصوى، ليس فقط لأهميتها النووية، بل كضربة حاسمة يمكن أن تغير مسار الحرب. هذا يتطلب انخراطاً أمريكياً مباشراً أو على الأقل دعماً لوجستياً وتقنياً غير مسبوق.

ت‌- الضغط الأقصى على واشنطن: ستكثف إسرائيل ضغوطها العلنية والسرية على إدارة ترامب للانضمام المباشر للحرب، بحجة أن انهيار دفاعاتها يمثل تهديداً وجودياً لا يمكنها مواجهته بمفردها.

على الصعيد الإيراني:

أ‌- استغلال نافذة الفرصة: تدرك إيران أن الدفاعات الإسرائيلية في أضعف حالاتها. لذلك، من المرجح أن تكثيفها لهجماتها الصاروخية في 18 و19 -6-2025، باستخدام أسلحة أكثر تطوراً وتدميراً لتعظيم الأضرار قبل أي تدخل أمريكي محتمل. التحذير بإخلاء مدينة حيفا وأحياء في المركز قد يكون مقدمة لضربة أشد قوة على تل أبيب.

ب‌- توجيه رسائل ردع للولايات المتحدة: ستصعد إيران من لهجتها تجاه الولايات المتحدة، مهددة باستهداف القواعد والمصالح الأمريكية في المنطقة ("أي دخول أميركي مباشر... سيقابل بتهديد غير مسبوق لسفن الأعداء")، في محاولة لرفع تكلفة التدخل المباشر على واشنطن.

على الصعيد الأمريكي (المتغير الحاسم):

أ‌- القرار الوشيك: الرئيس ترامب يواجه قراراً حاسماً. التقارير التي تشير إلى تردده ("لم أتخذ بعد قرارا نهائيا") وشكوكه حول فعالية القنابل الخارقة ضد فوردو، تظهر أنه يوازن بين ضغط إسرائيل ومخاطر الانجرار لحرب إقليمية واسعة.

ب‌- الاستعدادات العسكرية: تحريك حاملة الطائرات "نيميتز" وطائرات التزود بالوقود ونقل أصول من قواعد معرضة للخطر، يؤكد أن البنتاغون يستعد لسيناريو التدخل العسكري المباشر.

ت‌- الاحتمالية الأعلى: بالنظر إلى تصريحات ترامب ("صبرنا بدأ ينفد") والتقييمات الاستخباراتية حول انهيار الدفاع الإسرائيلي، فإن احتمالية اتخاذه قراراً بتوجيه ضربة أمريكية محدودة وعالية التأثير (مثل استهداف فوردو) خلال هذه الفترة مرتفعة جداً، وقد يتم ذلك بشكل مفاجئ.

خلاصة واستنتاج

المنطقة على شفا حرب إقليمية شاملة. الساعات القادمة ستشهد على الأرجح أعنف جولات القصف المتبادل منذ بدء المواجهة. ستسعى إيران لتحقيق "نصر" رمزي عبر اختراق الدفاعات الإسرائيلية بشكل كامل وإيقاع أضرار غير مسبوقة، بينما ستعمل إسرائيل على جر الولايات المتحدة بشكل كامل إلى المعركة لتنفيذ ضربة قاصمة ضد البرنامج النووي الإيراني. القرار الذي سيتخذه الرئيس ترامب في واشنطن سيكون العامل المحدد لمسار الأحداث، والانتقال من حرب ثنائية إلى مواجهة إقليمية هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور