زيارة علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى العراق ولبنان في ظل أكثر الظروف الإقليمية تعقيدًا، تحمل رسائل بالغة الأهمية إلى اللاعبين الإقليميين والدوليين. هذه الزيارة، التي جاءت بالتزامن مع تصاعد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لإضعاف محور المقاومة، ومساعي بعض القوى في لبنان لدفع خطة نزع سلاح حزب الله، تؤكد أن طهران، بدل الاكتفاء بردود الفعل، تمسك بزمام المبادرة وتعيد رسم المشهد السياسي والأمني لصالحها.
في بغداد، وقّع لاريجاني مع المسؤولين العراقيين اتفاقًا أمنيًا يهدف إلى تعزيز التعاون الحدودي، ومنع تسلل الجماعات المسلحة المعارضة، واحتواء التهديدات المشتركة. هذا الاتفاق وجّه رسالة واضحة إلى واشنطن بأن بغداد وطهران قادرتان على إدارة أمنهما بعيدًا عن وصاية القوات الأجنبية، وأثبت أن البلدين وصلا إلى مستوى من التنسيق يجعل من الصعب إحداث شرخ بينهما. وأكد لاريجاني في تصريحاته أن إيران لا تملي أوامرها على أحد، بل تطرح نفسها كشريك ومستشار، وهو خطاب يلقى صدى خاصًا في الساحة العراقية.
أما المحطة الأبرز في هذه الجولة فهي الوصول إلى بيروت. فلبنان اليوم في قلب معركة مصيرية تستهدف عمود محور المقاومة الأساسي، أي حزب الله. مشروع نزع سلاح الحزب، الذي تدفع به بعض القوى الداخلية تحت ضغط أمريكي ـ إسرائيلي، ليس إلا جزءًا من مخطط أشمل لإعادة تشكيل ميزان القوى في لبنان والمنطقة بأسرها. حضور لاريجاني في بيروت رسالة واضحة إلى تل أبيب وواشنطن بأن محور المقاومة لن يتراجع، بل سيوظف هذه الضغوط لتعزيز وحدته الداخلية وتوسيع قدراته.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل هذه الرسالة عن القضية الفلسطينية، التي تمثل البوصلة المركزية للمقاومة في المنطقة. فتعزيز التنسيق الإيراني ـ اللبناني يعني بالضرورة دعمًا أكبر للمقاومة الفلسطينية سياسيًا وعسكريًا، وإبقاء جبهة غزة والضفة في حالة ترابط استراتيجي مع الجبهة الشمالية للبنان. هذه المعادلة تزيد من تعقيد حسابات إسرائيل.
من منظور جيوسياسي، تأتي هذه الزيارة في إطار الصراع الأكبر على مستقبل غرب آسيا. فالولايات المتحدة، المنشغلة بتحديات حرب أوكرانيا واحتواء الصين، تبحث عن انتصار في الشرق الأوسط عبر ضرب محور المقاومة. غير أن طهران، بإرسال أحد أبرز وجوهها الأمنية إلى عاصمتين محوريتين في هذا المحور، تؤكد أنها تعيد صياغة قواعد اللعبة لمصلحتها. فبغداد وبيروت ليستا مجرد عاصمتين عربيتين، بل عقدتان استراتيجيتان في شبكة تمتد من طهران إلى المتوسط، وأي تغيير في وضعيتهما ينعكس مباشرة على قوة الردع لدى المقاومة.
هذه الزيارة مقلقة للغاية بالنسبة إلى إسرائيل، التي تدرك أن الحضور المباشر لمسؤولين أمنيين إيرانيين رفيعي المستوى في لبنان يعني بالضرورة تعزيز القدرات العملياتية وتطوير التنسيق الميداني مع حزب الله. وفي ظل إدراك تل أبيب أن جبهتها الشمالية هي نقطة ضعفها الاستراتيجية، فإن أي إشارة إلى تصعيد مستوى التعاون الإيراني ـ اللبناني تمثل تعديلًا سلبيًا في معادلة الردع لصالح المقاومة.
أما بالنسبة إلى العراق، فهذه الزيارة تفتح أمامه فرصًا مهمة. إذ يتيح له تثبيت العلاقات الأمنية مع طهران الاستفادة من إمكانيات إيران في مواجهة التهديدات الحدودية، وتجنب الانخراط في فلك الضغوط الأمريكية المباشرة. هذا التوجه ينسجم مع مصالح محور المقاومة، إذ يحافظ على العراق كحلقة حيوية وعمق استراتيجي للمحور.
تكمن أهمية هذه الزيارة بالنسبة إلى محور المقاومة ليس فقط في رسائلها العلنية، بل أيضًا في رسائلها الضمنية. فهي تظهر أن إيران، حتى في لحظة يتصور البعض أنها تحت ضغط اقتصادي ودبلوماسي شديد، قادرة عبر الدبلوماسية النشطة والحضور الميداني على الحفاظ على المبادرة في أكثر جبهاتها حساسية. وهذه هي الاستراتيجية التي أربكت مرارًا حسابات الولايات المتحدة وحلفائها طوال العقود الأربعة الماضية.
في الخلاصة، يمكن القول إن جولة لاريجاني إلى العراق ولبنان تشكل جزءًا من استراتيجية أشمل لتثبيت مواقع محور المقاومة في مواجهة موجة الضغوط الجديدة. إنها ليست مجرد رد على التحركات الأمريكية والإسرائيلية، بل تأكيد على أن هذا المحور، من بغداد إلى بيروت، ما زال يتمتع بالتماسك والمبادرة والقدرة على صياغة مستقبل المنطقة. وفي عالم يشهد تحولات في ميزان القوى وتشكّل تحالفات جديدة، تذكّرنا هذه الزيارة بحقيقة أن محور المقاومة ليس لاعبًا سلبيًا، بل أحد المهندسين الرئيسيين للنظام الإقليمي القادم.
المصدر: كاتب إيراني
الكاتب: بیمان صالحي